السفير العربي-
في الأسبوع الأخير من تشرين الأول/ أكتوبر 2017، فاجأ ولي العهد السعودي المشاركين في منتدى "مبادرة مستقبل الاستثمار" المنعقد بالرياض (والذي أطلق عليه اسم "دافوس الصحراء"!) بالإعلان عن مشروع بناء "مدينة المستقبل" تحت إسم "نيوم" (NEOM اختصاراً لـM = مستقبل، وNeo = جديد)، تجسيداً لما أعلنه الأمير عن حاجة بلاده إلى "حالمين" عوضاً عن التقليديين:
"الحلم" هو أن تكون المدينة مغطاة بالكامل بشبكة انترنت "واي فاي" مجانية عالية المستوى وأن تسير فيها سيارات نقل بلا سائقين وطائرات "درون" بركّاب، وقد يسكنها أناس آليون (روبوتات) أكثر من البشر إلخ...
تبلغ كلفة إنشاء المدينة 500 مليار دولار أميركي يقوم بتوفيرها "صندوق الاستثمارات العامة" السعودي ومستثمرون محليون وعالميون، عن طريق طرح نسبة من أسهم شركة النفط السعودية "أرامكو" في أسواق المال العالمية.
لم يتضمن إعلان محمد بن سلمان عن مشروعه العملاق تفاصيل أخرى عدا ما تحتويه عادة الإعلانات والمطويات والمواقع الترويجية (مثل موقع "اكتشف نيوم"). فعبر هذا الموقع وغيره نعرف إن الأنشطة الإقتصادية في المدينة الجديدة ستؤدي إلى الارتقاء بقطاعات الطاقة والمياه والزراعة والصناعة والتعليم والصحة والإعلام والنقل إلخ...
وحسب أحد تلك الإعلانات الترويجية، فإن مدينة "نيوم" ستكون "إحدى نتائج التطلعات الطموحة لرؤية 2030. وستكون منطقة مستقلة تحكمها قوانين وأعراف وُضعتْ خصيصاً لتسهيل النمو الإقتصادي ولرفاهية سكانها، ولتكون أكثر المدن في العالم جذباً لأفضل المواهب ومركزاً للتجارة والاختراعات والإبداع".
ولكن لا نجد أوراق عمل ولا مخططات ولا دراسات جدوى ولا محاولات جادة للإجابة على الأسئلة الأولية من قبيل:
كيف؟ ومتى؟ وبمن؟ وهي أسئلة تطرح عادة قبل البدء ببناء منزل عائلي أو مشروع تجاري صغير، فكيف عن مشروع يكلف نصف تريليون دولار.
إسرائيل: الشريك الصامت
سيقام مشروع "نيوم" شمال غرب المملكة السعودية ليجمع الدول المتشاطئة على خليج العقبة أي السعودية والأردن ومصر (وإسرائيل المسكوت عن ذكرها حتى الآن). سيُقام الجزء السعودي من المشروع على مساحة تزيد على 26500 كلم مربع (أكبر من مساحة لبنان بمرتيْن ونصف، وثلاثة أضعاف مساحة جزيرة قبرص، وما يعادل 35 مرة مساحة البحرين).
لم تتضح حتى الآن المساحة الجغرافية التي ستخصصها كل من إسرائيل والأردن للمشروع، بينما أعلنت مصر عن تخصيص ألف كلم مربع من أراضيها جنوب شرق سيناء لمشاريع رديفة لمشروع "نيوم".
علاوة على ذلك، فإن المشروع يتضمن تشييد جسر جديد بين مصر والسعودية يحمل اسم الملك سلمان. ولقد كرر ولي العهد السعودي مراراً تصريحات مفادها إن العمل في بناء الجسر سينطلق في 2020 ليكون جزءا من خطط التنمية الاقتصادية، ولتحويل جزء معقول من تجارة المنطقة مع أوروبا لتمر عبر السعودية ثم شمال سيناء.
لا تشير أيٌ من الإعلانات الترويجية إلى حجم مساهمة إسرائيل ودورها في مشروع ولي العهد السعودي. إلا إن هذا لا يعني إن إسرائيل غائبة أو غير معنية بمشروعٍ سيؤدي، إن تحَقَق، إلى تغيير أساسي في العلاقات بين الدول المتشاطئة حول خليج العقبة.
فحتى دون النظر إلى نمو العلاقات الودية، المعلنة وغير المعلنة، بين الدول الأربع، فثمة حقائق جيوسياسية لا يمكن تجاهلها قبل التخطيط لتشييد جسر يرتفع فوق معبر مياه دولي. فما بالك إذا كان ذلك المعبر الدولي ذا خلفية خاصة كما هو حال خليج العقبة، وخاصة مضائق تيران.
فبسبب ذلك لا بد من الحصول ليس فقط على موافقة إسرائيل بل على تعاونها، ولهذا تروج الأخبار غير المؤكدة عن لقاءات متتالية جمعت مسؤولين إسرائيليين وسعوديين، بمن فيهم محمد بن سلمان، وخاصة بعدما "أعادت" مصر جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، تمهيداً للإعلان عن مشروع "نيوم".
بن سلمان وهوس المشاريع الكبرى
لا يمكن الحكم على فرص نجاح أو فشل مشروع "نيوم" بسبب غياب المعلومات اللازمة. فهل سيكون مثلاً أكثر حظاً من مشروع "مدينة الملك عبد الله الاقتصادية" على ساحل البحر الأحمر بالقرب من مدينة جدة؟
لقد كلفت تلك المدينة حتى الآن أكثر من خمسين مليار دولار أميركي وكان مخططاً أن يسكن فيها 50 ألف نسمة بحلول عام 2020، وأن تقوم بالأدوار التنموية والإستثمارية والترفيهية نفسها التي ستقوم بها مدينة محمد بن سلمان تلك. إلا إن ما تحقق من تلك الخطط أقل بكثير من كل ما قيل.
لا نحتاج إلى الذهاب بعيداً عند البحث عن العوامل التي تؤدي إلى فشل المشاريع العملاقة في الدول الإستبدادية. فهذه المشاريع تولد كلما حلم حاكمٌ مستبد بأن "يصنع تاريخاً" سواء في صورة نصر عسكري أم مشروع عمراني. وحين يكون المستبد جاهلاً ومغروراً تتراكم الأخطاء وتتفاقم آثارها.
ففي البدء نرى الحاكم المستبد مقتنعاً بأنه يرى ما لا يراه الناس، فيرغمهم على رؤية ما يرى. فلا يجرؤ أحدٌ - خوفاً أو طمعاً - حتى إلى لفت نظره إلى أخطاء في الرؤية أو في طريقة وضع خطط تنفيذها أو في الأشخاص الذين انتقاهم لتنفيذ رؤيته وخططها. وحين تغيب المحاسبة لا يحتاج هؤلاء سوى إلى استمرار رضاه، مهما كان فسادهم شائعاً وسوء تأهيلهم واضحاً.
يقدِّم هوس محمد بن سلمان بالمشاريع الكبرى نموذجاً لحاكمٍ مستبد استطاع في ثلاث سنوات أن يراكم أخطاء كبيرة كلّفت الكثير من الأرواح والأموال والفرص الضائعة. أول تلك المشاريع الكبرى كانت حرب اليمن ("عاصفة الحزم") التي أعلنها بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى واجهة الحكم.
أراد بن سلمان أن يفعل ما لم يفعله الأوائل. إلا إنه لم يكن مؤهلاً لذلك، بالإضافة إلى عدم قدرته على تحليل ميزان القوى في المنطقة ونقاط ضعف بلاده، مما أدى به إلى أن يتصرف مثل الثور الهائج. ووجد بن سلمان من يصفق له من بين "الخبراء الإستراتيجيين" في بلاده، وبين سماسرة السلاح وقادة الدول المصنِّعة للسلاح.
وبعد أكثر من ثلاث سنوات، ما زالت حرب اليمن مستمرة وليس ثمة أمل في خروج بن سلمان منها منتصراً حتى ولو هُزم الحوثيون. وبعد "عاصفة الحزم"، كرّت الأخطاء الاستراتيجية الأخرى التي أدخلت السعودية وبقية دول الخليج والجزيرة العربية في دوامة جديدة من النزاعات تستنزف موارد بلدان المنطقة وتعزز هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية عليها.
كلاوس كلاينفيلد بين مَرتَعي فساد
في الثالث من تموز/ يوليو 2018، أعلن عن ترفيع كلاوس كلاينفيلد، الرئيس التنفيذي لمشروع "نيوم"، ليصبح مستشاراً لولي العهد محمد بن سلمان. جاء هذا الترفيع مفاجئاً بسبب سرعته، إذ لم تمضِ سوى أشهر قليله منذ تسلم منصبه كرئيس تنفيذي لمشروع "نيوم".
وقبل أن يطرح للعلن أياً من الخطط التي سيتمكن بها من تحويل "الرؤية" إلى وقائع فعلية يراها الناس. وهكذا سيتفرغ كلاينفيلد في موقعه الجديد للقيام بمهام "أكبر وأوسع نطاقا لتعزيز التنمية الاقتصادية والتقنية والمالية في المملكة العربية السعودية".
لا يبشر هذا الإعلان بخير. فمن مؤهلات كلاينفيلد إنه كان يعمل سابقاً في شركة "سيمنس" الالمانية العملاقة، وقد غادرها في 2007 بعد الكشف عن فضيحة فساد كبرى داخلها.
وتشير تقارير إعلامية إن تحقيقات النيابة العامة كشفت عن نظام متشعب من الرشاوى المالية والتنسيق غير الشرعي في تحديد الأسعار في مجال إنتاج الطاقة، أدت إلى أن تفرض مفوضية الاتحاد الأوروبي على الشركة غرامة مالية بمبلغ 419 مليون يورو.
فهل يستطيع مستشارٌ له هذه المؤهلات والخبرة الطويلة في مرتع فسادٍ أوروبي أن يُحوِّل - في مرتع الفساد السعودي - أحلام محمد بن سلمان وبضمنها "رؤية 2030"، إلى حقائق على الأرض؟