مبارك الفقيه- خاص راصد الخليج-
لا شك في أن المملكة العربية السعودية تعيش في هذه المرحلة مجموعة من التحديات على المستويين الداخلي والخارجي، فيما يفترض بالمجتمع السعودي أن يتحضّر للانتقال إلى مرحلة الانفتاح بعد سلسلة الإصلاحات التي قام بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ولكن يبدو من خلال رصد الأجواء العامة التي تحيط بالمملكة على المستويات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية أن هناك حصاراً خفياّ، سارت إليه الرياض أو أًقحمت به، يضعها في مسار حرج يستلزم التحرّك جدّياً وعلى أكثر من صعيد تلافياً للوصول إلى النفق المسدود.
شمّاعة حقوق الانسان
بات القاصي والداني يعلم أن الملف الأصعب الذي يضرب المملكة في مركز عصبها هو ملف "حقوق الإنسان وحرية الرأي"، وهو الشمّاعة التي طالما استخدمته الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والغرب بشكل عام، لتوجيه انتقادات إلى الرياض بشكل مباشر وبدون مواربة، سعياً لابتزازها مالياً وسياسياً أو محاولةً لإخضاعها لموقف ما، وما الأزمة الحالية بين السعودية وكندا ومعها بعض الأوروبيين إلا أحد أوجه هذا الابتزاز، ما يضع السعودية ومعها دول الخليج في مواجهة تنأى عنها واشنطن إلى الآن؛ وبقطع النظر عن نتائج هذه المواجهة لكن الحديث الأهم هو إلى متى سيبقى هذا الملف سيفاً مسلطاً على كاهل المملكة؟ وهل اتباع سياسة الانفعال وردات الفعل الخشنة من شأنه أن يعطي للرياض قيمتها وموقعها بين الدول؟
هل تنضم إسرائيل إلى جوقة الابتزاز؟
ليست كندا هي الخصم الوحيد للسعودية في ملف حقوق الإنسان، بل يمكن اعتبارها واجهة أو عنواناً للمواجهة التي ستبقى الرياض تقحم نفسها فيها، ولو أن مواقف المسؤولين الكنديين اتسمت بالليونة والدبلوماسية إلا أن دولاً أخرى غربية لن تراعي، وهي لم تراعِ سابقاً، السعودية في هذا المجال، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي أتقن رئيسها دونالد ترامب لعبة الابتزاز وسياسة حافة الهاوية في التعاطي مع الدول العربية ولا سيما الخليجية منها، فهؤلاء يعمدون إلى توريط حكامنا بالمواقف السياسية ويبدون الدعم السياسي والإعلامي، في حين أنهم لا يمانعون ولا يعترضون على أي قرار أممي أو محلي يدين السعودية أو يطالبها بتعويضات مالية أو مقايضات اقتصادية على شكل مشاريع استثمارية، ولا غرابة أن تعمد إسرائيل، في المرحلة المقبلة، إلى مطالبة السعودية بالمساهمة في دفع التعويضات لقاء "ضحايا" المحرقة المزعومة.
السعودية وثقافة البدو
وثمة من وصف الموقف السعودي المتشدد ضد كندا بأنه أحد تجليّات الثقافة البدوية، أن ابن سلمان خاض "المعركة الخطأ مع البلد الخطأ"، وبدلاً من الهجوم على أوتاوا كان على الرياض أن تعتذر عن سلوكها المتهوّر، وأن تتراجع عن قراراتها التعسفية بدل الهروب إلى الأمام والإمعان في تشويه صورة السعودية. ويزعم هؤلاء أيضاً أن ما أعلنه ولي العهد عن "المملكة الجديدة" يتناقض مع استتمرار الاعتقالات وسجن المعارضين والناشطين، فالدخول إلى عصر الديمقراطية لا يجيز قمع الحريات وسجن المعترضين سلمياً، فهل يجري كل ذلك خوفاً من أن يكتشف الشعب عدم قدرة الحكومة على الوفاء بوعودها؟ هذا فضلاً عن استمرار الغمز من قناة احتجاز رئيس حكومة لبنان سعد الحريري وإجباره على الاستقالة من منصبه أواخر العام الماضي، و"جمع" رجال الأعمال السعوديين في "سجن ريتز الفاخر"، ومصادرة أموالهم وإلزامهم بتعهّدات وإقرارات تكبيل تعجيزية.
الإمارات الوجه البشع
هناك حصار داخلي قد يتعاظم خلال الأيام المقبلة في ظل استمرار المشكلة الاقتصادية على حالها دون أي تحسّن يذكر، فضلاً عن تعثر مشروع الأحلام في "نيوم"، وتأجيل واشنطن الإعلان عن "صفقة القرن"، ما يدفع ابن سلمان إلى مراجعة مواقفه ومشاريعه التي أعلنها قبل عامين واعداً المنطقة برمّتها بمستقبل زاهر يعوم على الاستثمارات وفرص العمل، وما يعمّق الجرح في خاصرة السعودية هو إمعان الإمارات في القسوة والرعونة في العمليات العسكرية على جبهة اليمن، التي تراوح مكانها، دون تفريق بين هدف عسكري أو هدف مدني، كما حصل مؤخراً في مجزرة الأطفال في ضحيان، لأن أي خطأ ترتكبه الإمارات سيُسجل على أنه قرار سعودي لأن الرياض هي التي تتزعم قوى التحالف في الحرب على اليمن، فهل من العدل أن يكون الغُنم للإمارات والغرم على السعودية؟ وهل التزامن بين الأزمة مع كندا ومجزرة ضحيان فعل مقصود لتوريط الرياض أكثر تحت عنوان حقوق الإنسان؟
الخيارات الضيقة
إن من أكثر الانتقادات التي سيقت ضد السعودية حدّة ولؤماً هي التي اعتبرت أن الحكومة السعودية ضعيفة في قراراتها الموتورة، وأن ولي العهد بأنه متوتر ومتهور وغير ناضج وطاغية، وهي الصورة التي عمل من خلال إصلاحاته على نزعها، ليس عن السعودية فحسب، بل عن كل الواقع الخليجي، فقد تبيّن من خلال تكتّل الموقف الغربي ضد السعودية أن الاعتبار المقولب عن العرب لا زال كما هو دون تغيير، والأخطر في الأمر أن الغرب، الذي يعتمد على مقولة "حقوق الإنسان" في سعيه لتغيير الأنظمة في العالم، يعمد اليوم إلى اتباع السياسة نفسها مع الرياض، وبالتالي سيجعل المملكة في إطار الخيارات الضيقة، لا سيما أن السعودية التي طالما تباهت بموقعها الأبوي للدول العربية والإسلامية باتت اليوم في محيط عدائي بلا طائل بدءاً من تركيا فقطر وصولاً إلى العراق واليمن وسوريا ولبنان، وما خفي قد يكون أعظم.