مضاوي الرشيد - فورين أفيرز-
أدى مقتل الصحفي "جمال خاشقجي" في القنصلية السعودية بإسطنبول، في 2 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى الإضرار بصورة النظام السعودي ومصداقيته في جميع أنحاء العالم. حتى أن شركاء السعودية، الذين طالما اعتزوا بعلاقاتهم الوثيقة مع النظام، وامتنعوا عن الانتقاد الصريح للقمع الداخلي، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تحدثوا في أعقاب القتل، وطالبوا بإجراء تحقيق واضح وشفاف.
ولا يعد احتجاز المعارضين والنقاد، وحتى قتلهم، أمرا جديدا في المملكة، لكن قتل "خاشقجي" سلّط الأضواء على تجاوزات النظام الاستبدادي المتزايدة. وفي الماضي، كان الحكام السعوديون مقيدين جزئيا على الأقل بنظام تقاسم السلطة؛ حيث سيطر الأمراء المختلفون على مختلف فروع الحكومة المؤثرة، وكان الملك مسؤولا أمامهم جميعا. لكن الملك "سلمان" أطاح بهذا النموذج عندما وصل إلى السلطة عام 2015، وعين ابنه "محمد بن سلمان" وليا للعهد، وهو أعلى منصب في المملكة بعد الملك. ولقد تحول النظام الملكي السعودي من نظام يحكمه الإجماع الملكي إلى نظام يحكم فيه فرد واحد ويحكم بسلطة مطلقة.
ويبدو أن جريمة "خاشقجي" تظهر مثل هذه القوة التي تتم ممارستها بأقصى قبح. ويمثل هذا الحدث تحديا جديدا وجديا لحلفاء وشركاء المملكة، وخاصة الولايات المتحدة. ومع تهميش بقية العائلة المالكة والجمهور السعودي تماما، فإن الولايات المتحدة هي الجهة الوحيدة المتبقية التي تتمتع بنفوذ كافي لتقييد نظام "بن سلمان". وللقيام بذلك، يتعين على إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" أن تعيد النظر في أسس الدبلوماسية الأمريكية مع المملكة. وبالنظر إلى رد "ترامب" المتردد تجاه قضية "خاشقجي" حتى الآن، فإن هذا الخيار يبدو غير محتمل.
سلطة مطلقة
وفي قلب الأزمة الحالية في المملكة تقع مسألة الخلافة. وفي الماضي، كان النظام السعودي يتألف من إقطاعات متعددة، مع أمراء من مختلف فصائل الأسرة مسؤولين عن الوزارات المؤثرة. وكان الملك هو رأس الدولة، وكذلك صاحب الكلمة بين أقاربه الأمراء. وقد أدى هذا الترتيب في بعض الأحيان إلى حدوث احتكاك بين الأمراء، لكنه أدى بشكل عام إلى تقييد سلطة الملك، الذي اضطر للتشاور مع إخوته حول القضايا الرئيسية. وكان الملك فعليا هو الأول بين متساويين، مع درجة من التوازن السائد بين الفصائل المختلفة في أسرة "آل سعود".
وكان الملك "عبدالله" (1924-2015) آخر ملك يحكم بموجب هذا الترتيب. ومثل غيره من الملوك قبله، أدرك أنه لن يتمكن من حكم المملكة بفعالية إذا تجاهل إخوته الكبار أو تصرف ضد إرادتهم. وفي مصادفة غريبة، أصبح الملك "عبدالله" أول ملك يشهد موت اثنين من أولياء العهد اللذين كانا من المفترض أن يخلفوه؛ الأول هو أخوه غير الشقيق الأمير "سلطان" عام 2011، ثم أخوه غير الشقيق أيضا الأمير "نايف" عام 2012، لتؤول ولاية العهد إلى "سلمان" المريض. ولما كان كل من شغل منصب ولي عهده مريضا، أنشأ الملك "عبدالله" منصبا جديدا، وهو منصب ولي ولي العهد، من أجل سد فراغ السلطة. وعين أخيه غير الشقيق الأمير "مقرن" في ذلك المنصب. وفي 2007، أنشأ الملك "عبدالله" هيئة البيعة، التي تتألف من 35 من كبار الأمراء وأبنائهم، للإشراف على الخلافة.
وأصبح "سلمان" ملكا عندما توفي "عبدالله" عام 2015، ومنذ ذلك الحين، قام الملك "سلمان" بتحطيم ترتيبات تقاسم السلطة لدى العائلة. وكان قادرا على القيام بذلك بسبب التركيبة الديموغرافية للأسرة المالكة. وكان معظم أشقاء الملك قد ماتوا في الوقت الذي تولى السلطة فيه؛ مما سمح له بتهميش إخوانه المؤهلين الذين لا يزالون على قيد الحياة، وحتى أبناء أخوته. وكان أحد إخوة الملك، وهو الأمير "أحمد"، خيارا مطروحا لشغل منصب ولي العهد. ولكن بسبب أنه لم يكن قد شغل مناصب رفيعة في الحكومة لفترة طويلة من الزمن، وبسبب رغبة الملك "سلمان" القوية في ضمان أن يرث ابنه التاج، قرر "سلمان" أن يتجاهل الأمير "أحمد". وفي غضون أسابيع من بلوغه العرش، أقال "سلمان" ولي العهد "مقرن"، ثم خلع ولي العهد الأمير "محمد بن نايف" عام 2017، وعين ابنه "محمد بن سلمان" بدلا منه، واختار عدم تعيين ولي لولي العهد. وعند تعيين ابنه، تجاهل الملك "سلمان" هيئة البيعة. وهكذا تحولت المملكة فعليا إلى نظام استبدادي تتركز فيه كل سلطة الدولة في يد شخص واحد.
ولم يحتل أي أمير قبل "بن سلمان" كل هذه المناصب في السلطة في هذه السن المبكرة. فبالإضافة إلى كونه وليا للعهد، فهو نائب رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، ورئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية. وهو رئيس "أرامكو"، شركة النفط والغاز الطبيعي المملوكة للدولة. كما يسيطر الأمير الشاب على أدوات الدولة الناعمة، مثل هيئة الترفيه المنشأة حديثا.
وقد حجبت سلطة "بن سلمان" أي منافذ للسلطة تمكنت من خلالها العائلة المالكة من التأثير على السياسة. وقد تفككت هيئة البيعة بعد احتجاز العديد من أعضائها فيما يسمى بـ"حملة مكافحة الفساد" عام 2017. وقام "بن سلمان" بتهميش المؤسسة الدينية، واعتقل النقاد ورجال النخبة المالية.
لقد فرض ولي العهد سياسات من الأعلى إلى الأسفل، دون إعطاء الفرصة للسعوديين للتحاور حولها، ناهيك عن انتقادها. وعلى سبيل المثال، رفع الحظر عن قيادة النساء للسيارات، وعزز ثقافة البوب والترفيه. وتتنكر هذه الإصلاحات التجميلية في ثوب الإصلاحات الجوهرية، ويُقصد بها أن تكون بديلا شعبيا للإصلاح السياسي. وهي مصممة أيضا لصرف السعوديين عن القمع المتفاقم، لا سيما قمع الأصوات الناقدة وإسكات النقاش في المجال العام. وحتى الأعضاء الآخرين في العائلة المالكة يحرمون اليوم من حقوقهم، وقد توجت السلطوية السعودية الجديدة، التي تتطلب خضوعا كاملا وولاء شاملا لولي العهد، بفضيحة مقتل "خاشقجي".
ملوك ورؤساء
ومع عدم قدرة أي شخص على كبح جماح "بن سلمان" من الداخل، يجب أن يوجد من يقف له من الخارج. والولايات المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على ممارسة الضغط اللازم. فالولايات المتحدة هي الضامن الرئيسي لأمن النظام السعودي. وهي تبيع المزيد من الأسلحة إلى المملكة من أي بلد غربي آخر. وفي واشنطن، لا تزال المملكة شريكا استراتيجيا، وإن كان شريكا يسبب الإحراج، من وجهة نظر الجمهور الأمريكي ووسائل الإعلام. وتتعامل الولايات المتحدة مع المملكة كحليف مهم في الحرب ضد الإرهاب، وكلاعب في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وصد النفوذ الإيراني المتصاعد في الشرق الأوسط. وللأسف، تقوم علاقة الولايات المتحدة مع السعودية بشكل كامل على العلاقات الشخصية بين القادة، وليس وفق المعايير الدبلوماسية. ويمنع هذا النوع من العلاقات وجود سياسة فعالة من قبل الولايات المتحدة تجاه ولي العهد.
وتعود العلاقات الشخصية بين الرؤساء الأمريكيين والملوك السعوديين إلى عام 1945، عندما التقى الرئيس الأمريكي "فرانكلين دي روزفلت" الملك "عبد العزيز آل سعود" على متن حاملة الطائرات "كوينسي" في قناة السويس. وأدى هذا اللقاء إلى إنشاء أول قاعدة عسكرية في المملكة، بينما حافظت شركات النفط الأمريكية على مصالحها الراسخة منذ عام 1933. وكان النفط أساس العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية، وكان موقع المملكة الاستراتيجي مهما للعمليات العسكرية الأمريكية في آسيا. ووضعت هذه المصالح المشتركة الأساس الذي سيقوم عليه في مستقبل الدبلوماسية بين قادة البلدين.
ومنذ ذلك الاجتماع، نظرت الولايات المتحدة إلى سياستها الخارجية تجاه السعودية باعتبارها متوقفة على قيام المملكة بما يتوجب فعله تجاه المصالح الأمريكية. وكان الأمير "بندر بن سلطان"، سفيرا سعوديا لدى الولايات المتحدة عندما تم استدعاؤه إلى المملكة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية، عندما اكتشفت الولايات المتحدة أن 15 من الخاطفين كانوا سعوديين، ومنذ ذلك الحين، أصبح من الصعب للغاية الدفاع عن المملكة، أما الأمير "تركي الفيصل" و"عادل الجبير"، اللذين خلفاه كسفراء فلم يتمكنا من إرضاء رغبة واشنطن في محاور سعودي قريب من العرش ومخلص للمصالح الأمريكية. وتم إرسال الأمير "تركي" إلى واشنطن كجزء من هجوم ساحر لنزع فتيل التوتر مع الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/أيلول مباشرة، لكنه انتقد سياسة الولايات المتحدة في القضايا الكبرى، مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما أنه انتقد بشدة تقييم الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" الإيجابي للانتفاضات العربية عام 2011. وقد جادل الأمير "تركي" بأن إيران، وليس السياسة الداخلية أو الافتقار للديمقراطية، هي ما يشكل أكبر تهديد للمملكة والمنطقة. وتوترت الأمور بشكل أكبر بعد أن وقعت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 دون مشاركة السعودية، في أعقاب مفاوضاتٍ سرية في عمان.
وعندما جاء "بن سلمان" إلى السلطة، أرسل أخاه "خالد بن سلمان" إلى واشنطن كسفير جديد. وفي حين حكم أحد الأخوين في الرياض، كان الآخر "يأكل" آذان "ترامب" وصهره "جاريد كوشنر"، في ترتيب يشبه العلاقة الأسرية أكثر من كونها علاقة دبلوماسية بين دولتين. ولسوء الحظ، يبدو أن هذه العلاقات الشخصية صرفت انتباه الجهات الفاعلة في السياسة الخارجية في واشنطن عن العمل الشاق المتمثل في إجراء تقييم نقدي للأولويات المتغيرة والمصالح المتبادلة للبلدين.
وتعد العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والسعودية معقدة لتتجاوز حقيقة أن المملكة تفتقر بالكامل إلى مؤسسات سليمة، مثل حكومة منتخبة، وبرلمان فعال، وقضاء مستقل، وهو ما كان ليساعد على توزيع السلطة وتقييد الحكم المطلق. وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة لم تستخدم نفوذها أبدا للضغط على حليفتها لإنشاء مثل هذه المؤسسات. ويبقى الأمراء هم القناة الوحيدة التي تعرف الولايات المتحدة من خلالها كيفية التعامل مع السعودية، ولا توجد إجراءات دبلوماسية طبيعية لمحاسبة أي أمير مارق. وقد تختار الولايات المتحدة التعامل مع الشمولية المستجدة في المملكة على أنها مجرد تطور مؤسف أو محرج في واحدة من أعظم علاقاتها، حتى بعد مقتل "خاشقجي".
وعندما تم قتل "خاشقجي"، تذبذب رد فعل "ترامب" بين إدانة الجريمة وبين البحث عن مخرج لـ"بن سلمان" من خلال التلميح إلى أن القتل قد يكون من عمل "عناصر مارقة" داخل الدولة. ولكن في نظام شمولي تتركز فيه كل السلطة في يد شخص واحد، فإنه ببساطة لا يمكن تصديق أن المسؤولية عن مثل هذا الفعل قد تقع على عاتق أي شخص آخر غير ولي العهد. وتظهر تصريحات "ترامب" عدم وجود تدقيق جدي في هياكل السلطة والقيادة السعودية. ومن وجهة نظره، فإن ميزة الشراكة الأمريكية السعودية أكبر قيمة من فكرة إعادة النظر بشكل جدي في تلك العلاقة.
الأمير المارق
وللمضي قدما، سيحتاج السعوديون إلى إيجاد طريقة للانخراط من جديد في سياسة بلدهم. وفي ظل نظام "بن سلمان"، مع إسكات جميع النخب الدينية والمالية والسياسية، يُحكم السعوديون في المقام الأول بالخوف. ولقد كان القصد من اغتيال "خاشقجي" لفت انتباههم إلى المدى الذي سيذهب إليه النظام سعيا وراء السلطة المطلقة. وبالتالي، فإنهم يتطلعون إلى المجتمع العالمي لكبح جماح ولي العهد.
وقد تبدأ الولايات المتحدة بتقديم دعمها المشروط لـ"بن سلمان" على أساس اعترافه بحريات الناس وسيادة القانون. ومن شأن هذا أن يساعد في كبح جماح الشاب المارق الذي يحتل السلطة والذي أظهر حتى الآن عدم احترامه للمجتمع الدولي، وانتهك بشدة الثقة الدبلوماسية، خاصة مع تركيا.
لكن إذا انتهى قتل "خاشقجي" إلى التجاهل المعتاد من قبل الولايات المتحدة، فلن يكون هذا آخر عمل مروع نراه. وسيبعث الرد غير المكترث برسالة واضحة من الولايات المتحدة إلى "بن سلمان" أنه يمكن لولي العهد الصغير أن يفلت من أي شيء، حتى القتل المباشر.