ملفات » الطريف إلى العرش

روسيا والخلافة السعودية.. بوتين يرمي شباكه لاقتناص فرصة خاشقجي

في 2018/12/28

الخليج الجديد-

"الأمير محمد له كل الحق في وراثة العرش".. بهذه الكلمات عبر مبعوث الرئيس الروسي للشرق الأوسط "ميخائيل بوغدانوف" عند دعم "فلاديمير بوتين" اللامحدود لـ"بن سلمان" في مقابلة مع وكالة "بلومبرغ"، محذرا الولايات المتحدة من ممارسة أي ضغوط بشأن ترتيبات خلافة الملك بالسعودية.

وسلطت تصريحات "بوغدانوف" الأضواء مجددا على ما بدا أنه تقارب سعودي – روسي ملحوظ خلال الشهرين الماضيين، وتحديدا بعد تداعيات جريمة اغتيال الكاتب الصحفي "جمال خاشقجي" داخل القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول التركية في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو التقارب الذي توجته صورة المصافحة الشهيرة بين "بوتين" و"بن سلمان" في قمة مجموعة العشرين الأخيرة بالأرجنتين.

ودارت تساؤلات المراقبين حول أسباب تصاعد التقارب الروسي السعودي في الآونة الأخيرة، والملفات التي يستهدفها، وآفاقه المستقبلية، في ظل اتجاه مؤسسات الدولة الأمريكية لتصعيد الضغوط على "بن سلمان" على خلفية "قضية خاشقجي"، باستثناء البيت الأبيض، الأمر الذي عبر عنه تصويت مجلس الشيوخ بالإجماع على تحميل ولي العهد السعودي مسؤولية جريمة الاغتيال.

رسالة روسية

فمصافحة قمة العشرين جاءت أكبر من مجرد تعبير عن المودة الشخصية، بل كرسالة من "بوتين" لـ "بن سلمان" مفادها أن روسيا مستعدة لتمثيل البديل الملائم في حال أرادت القيادة السعودية ذلك، ودون اشتراطات خاصة بالإصلاح أو حقوق الإنسان، في محاولة لاستغلال الجفاء الغربي تجاه الرياض.

وقد عبر "بوغدانوف" عن رسالة "بوتين" بوضوح عندما قال في مقابلة "بلومبرغ": "بالطبع نحن ضد التدخل، وعلى الشعب والقيادة في السعودية أن يقرروا مثل هذه الأسئلة بأنفسهم. لقد اتخذ الملك قرارا، ولا يمكنني حتى أن أتخيل على أي أساس سيتدخل شخص في أمريكا في مثل هذه القضية، ويفكر في من ينبغي أن يحكم المملكة العربية السعودية، الآن أو في المستقبل. هذه مسألة سعودية".

من هنا جاءت المشاركة الروسية المكثفة في منتدى الاستثمار الأخير بالرياض، في وقت عزفت فيه أغلب الشركات الغربية عن الحضور، بعد أيام من جريمة اغتيال "خاشقجي"، إذ قاد الرئيس التنفيذي لصندوق الثروة السيادي الروسي "كيريل دميتريف" فريقا يضم أكثر من 30 رئيساً تنفيذيا لشركات روسية.

حينها نقلت تقارير إعلامية روسية أن "بن سلمان" قال للوفد إنه بات يعلم الآن "من هو الصديق الأقرب ومن هو العدو الألد"، ما أثار تساؤلا بأوساط مراقبي الشأن السعودي مفاده: هل تستطيع السعودية الاستغناء عن الولايات المتحدة فعلا؟.

حث اقتصادي

بدت سياسات "الحث" الروسية دافعة لـ"بن سلمان" كي يجيب بنعم، وآخرها إعلان "ديميتريف"، الثلاثاء، عن دراسة صندوق الاستثمارات الروسي الدخول في شراكة كبرى مع أرامكو السعودية في مجال "الغاز المسال"، غير أن اعتبارات الإجابة لا تقتصر على الحوافز الاقتصادية وحدها، حسبما أورده تقرير لمجلة "ذا ناشونال إنترست".

فالمصالح الاستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة بشأن مواجهة نفوذ إيران الإقليمي تمثل أحد أهم تلك الاعتبارات، بحسب المجلة الأمريكية، ولذا فإن تصعيد العلاقة الاقتصادية مع روسيا يظل "ورقة ضغط" يستخدمها "بن سلمان" في مواجهة تصعيد الضغوط الغربية ضده، ولن يقوم بترقيتها إلى مستوى التحالف الاستراتيجي إلا في حال المساس ببقائه على رأس السلطة ببلاده.

بدا ذلك واضحا من قفزة كبيرة شهدها مستوى الشراكة الاقتصادية بين السعودية وروسيا خلال الشهرين الماضيين، إذ يعتزم الصندوق الروسي السعودي المشترك ضخ استثمارات بقيمة 2 مليار دولار في مشاريع البنى التحتية الروسية وحدها عام 2019، مع استمرار إبرام الشراكات مع مجموعات وادي السليكون التكنولوجية بالولايات المتحدة، ومنها شركتي Zume وView، حيث تلقت كل منهما استثماراً بقيمة 1.5 مليار دولار عبر صندوق الرؤية المشتركة بين السعودية ومجموعة سوفت اليابانية. 

وإزاء ذلك، يتعاطى الروس مع الانفتاح الاقتصادي السعودي بسياسة الترقب لانتهاز أكبر مصلحة ممكنة من "فرصة خاشقجي"، إذا لا تمثل قضايا حقوق الإنسان والحريات تاريخيا أولوية لدى سياسات موسكو، التي ترى في فرض نموذج الليبرالية الغربية تهديدا استراتيجيا لها، خاصة في ظل تهديده له بالجوار الأوكراني.

وكلما تعمق مستوى التعاون في هذا الإطار كلما كان ذلك مصلحة روسية أكبر، باعتباره خصما من كعكة الاستثمارات السعودية في الخارج بوجه عام، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص.

ثورة النفط

ورغم إبداء الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" حرصا بالغا على عدم خسارة هذه الكعكة، في تصريحاته التي دافع فيها عن "بن سلمان"، رافضا تحميله مسؤولية اغتيال "خاشقجي"، إلا أن استراتيجية مؤسسات الدولة الأمريكية تسير باتجاه التقليل من أهمية مضخة النفط السعودية التقليدية، خاصة منذ ثورة إنتاج النفط الصخري، لتظل الجوانب الدفاعية والجيوستراتيجية المحدد الأبرز لمستوى دفء العلاقة بين البلدين.

ومنذ تنامي الإنتاج الأمريكي من النفط، حتى صارت الولايات المتحدة أكبر منتج عالمي له مؤخرا، اتجهت السعودية لتعاون أوثق مع روسيا في مجال الطاقة، بلغ باتفاق روسيا مع دول منظمة الدولة المصدرة للنفط (أوبك+) لخفض الإنتاج في 2016، بدعم من "بن سلمان"، ما كشف عن تضافر سياسات الدولتين للتحكُّم بصورة أفضل في توزيعات العرض والطلب، دون أن يعني ذلك انتهاء نفوذ واشنطن الاستراتيجي بالرياض.

وفي هذا الإطار، جاء تحذير السفير الروسي السابق "أندريه باكلانوف" من نجاح الضغوط الأمريكية في تغيير خلافة العرش بالسعودية، مؤكدا أن فقدان "بن سلمان" لوراثة العرش يعني توقع صعوبات في العلاقات مع السعودية في مجال تسعير النفط، وفقا لما نقلته صحيفة "فزغلياد" الروسية.

وجاء التحذير الروسي متزامنا مع تسريبات نقلتها وكالة "رويترز" حول اجتماعات يعقدها الأمير "أحمد بن عبدالعزيز" مع أمراء العائلة المالكة، لتغيير مسار خلافة العرش بالمملكة، خاصة أن عم ولي العهد السعودي عاد من منفاه الاختياري بلندن إلى الرياض بضمانات أمنية حصل عليها من الولايات المتحدة.

ورقة ضغط

كيف يمثل توسيع الشراكة الاقتصادية مع روسيا ورقة ضغط سعودية إذن؟

يرى المراقبون أن ذلك يقلل من فاعلية العقوبات الغربية ضد موسكو على المدى المتوسط، ويضع جرس إنذار بشأن خطوط أمريكا الحمراء على الحافة، خاصة فيما يتعلق بإسناد تنفيذ المشروع النووي السعودي لروسيا أو الانتقال إلى التسلح بمنظومات الدفاع الروسية، خاصة (إس-400) التي تضغط واشنطن على العديد من دول العالم للتخلي عن التزود بها مقابل دعمها دفاعيا.

وبذلك فإن رسالة الضغط السعودية مفادها أن تفعيل قانون ماغنيتسكي، الذي يمنح السلطة التنفيذية الأمريكية معاقبة المسؤولين الأجانب المتورّطين في انتهاكات لحقوق الإنسان؛ يعني خطا أحمر مقابلا لخطوط واشنطن الحمراء، بحسب أستاذ قسم الدراسات الشرقية الحديثة بكلية التاريخ والعلوم السياسية والقانون في جامعة الدولة الروسية للعلوم الإنسانية "غريغوري كوساتش"، الذي نوه إلى استعداد ولي العهد السعودي لتفعيل صفقة إس-400 بل وترقيتها إلى مستوى أعلى من التعاون الدفاعي، وفقا لما نقلته "فزغلياد".

احتياج استراتيجي

لكن يظل تحالف روسيا وإيران حائلا دون تحول ورقة الضغط السعودية إلى مستوى العلاقة الاستراتيجية، فالمنافسة الجيوسياسية المتصاعدة بالخليج، والتي وصلت ذروتها العام الماضي (2017) بإجراء تدريبات بحرية مشتركة بين إيران والصين في مضيق هرمز، يحتاج السعوديون فيها إلى واشنطن بصفتها شريكاً يمكن الاعتماد عليه "عسكريا"، وهو ما لا يمكن لموسكو تقديمه للرياض.

هو تقارب المتضرر الحالي والمحتمل من العقوبات الأمريكية إذن، ولدى تداعيات قضية "خاشقجي" ووراثة العرش السعودي قاسما كبيرا من رؤية مستقبل استمراره من عدمه، وبذلك فإن أوراق اللعبة لا تزال في واشنطن، ليس فقط بتحكمها في التأثير على التهديد الاستراتيجي الأكبر بالنسبة للسعودية، بل لإمكانية تأثيرها في مستوى التقارب الاقتصادي مع روسيا أيضا.

فقد يدفع إغراق أمريكا للسوق العالمية بالمزيد من الإمدادات موسكو والرياض لإيقاف تعاونهما والعودة إلى التنافس للحفاظ على حصتها من سوق النفط، وربما يكون الفارق بين سعر برميل النفط المُرضي لكل منهما هو العامل المحفز للخلاف بينهما، بحسب تقرير "ذا ناشونال إنترست".

ولذا فإن التقارب الاقتصادي يبدو مفيدا لروسيا، التي تملك بدائل كونها قوة إقليمية، أكثر من السعودية، التي تخرج من حربي سوريا واليمن في وضع استراتيجي يؤكد حاجتها إلى من يسندها عسكريا فوق أي اعتبار آخر.