فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
في 26 ديسمبر 1991، أُعلن رسميًا انتهاء وجود الاتحاد السوفيتي السابق، فجأة، وكما كان الصعود صاروخيًا، من دولة قيصرية متخلفة، تعيش في ظلمات العصور الوسطى، ويرزح مواطنوها تحت سلطة الإقطاع وعصا الكنيسة الغليظة، كان السقوط هائلًا ومدويًا، وأمام الكاميرات، التي أضافت المهانة إلى الانهيار المروع.
قبل السقوط، عرف الاتحاد السوفيتي السابق محاولات جريئة للإصلاح، مثلها –في قوة وقدرة- رئيس الكي جي بي يوري أندروبوف، جاء إلى السلطة سكرتيرًا للجنة المركزية للحزب الشيوعي عقب وفاة بريجنييف، الذي قضى 20 عامًا سميت بفترة الجمود الطويل، ورغم جمع الرجل بين امتلاك المعلومة والقدرة على السيطرة، حيث ترأس المخابرات السوفيتية القوية لمدة تقارب العقدين، إلا أن مرضه وكبر سن مسئولي اللجنة المركزية، أطاحا بأحلامه، التي سبقته إلى حيث دفن في مثواه الأخير، قبل أن يتم عامين فقط على رأس السلطة.
وبعدها جاء جورباتشوف بآمال لا حصر لها في التغيير، مدفوعًا بنجاح غريب في الإطاحة بالأعضاء القدامى من هيكل السلطة، وكان وقت أن تولى مسئولية الحكم أصغر أعضاء اللجنة المركزية سنًا، لكن تجربته انتهت إلى الانهيار الكامل للبلد، وجرى إنزال العلم السوفيتي الأحمر بليل، في مهانة لا تزال عالقة بأذهان من عاصروها.
ومنذ السقوط تبارى محللون، ولا يزالون حتى اليوم، في طرح أفكار ورؤى، سببت ما جرى، إلا أن كلمة الفساد هي العامل المشترك الأول في أي نظرية للسقوط السوفيتي، فالفساد في بنية الحزب الحاكم، وجسد الدولة المترهل، لم يتركا لأي جهود إصلاحية أن تثمر أو أن تكتمل، وكان المسئولون في مختلف الصفوف والمؤسسات، يسعون خلف امتيازات الوظائف، ومن لم يحصل عليها من الدولة، سعى لبيع ما يعرف لمن يعتقد أن يهتم بالدفع، وفشل انقلاب "يازوف" وزير الدفاع السوفيتي في أغسطس 1991، لأن الجنرالات أبلغوا واشنطن أن الجيش لا يدعم التحرك ضد "جورباتشوف"، وكان هذا آخر عائق أمام التفكك الكامل لكيان الدولة السوفيتية.
لم يشفع للسوفييت أن خرجوا من الحرب العالمية الثانية، وقد بسطوا سيطرتهم على نصف أوروبا، أو أنهم أول من أرسل صاروخًا للفضاء، ثم أرسلوا أول كلب "لايكا"، ثم أول رجل "جاجارين"، ثم أول امرأة "فالنتينا"، ولم يمنع من سقوطهم المدوي امتلاكهم لترسانة أسلحة نووية –مع وسائل إيصالها إلى أي بقعة في الكوكب- قادرة على تدمير الأرض عدة مرات، فكل عوامل القوة والقدرة والفعل تلاشت بفعل عامل رئيس واحد هو الفساد الضارب بجذوره في أخطر وأعمق أجهزة الدولة.
الفساد القادر على تصفية مجتمعات وهدم دول، راسخة كالطود، هو التحدي الأهم للمملكة السعودية حاليًا، ويزداد ويتجذر بالاعتماد على حلقة حكم تضيق كلما ضاقت الخيارات السياسية أمام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أو تذهب بفعل مغامرات جنونية، كما جرى في أزمة خاشقجي، أو الكارثة الجديدة لفتاة اختارت أن تخرج من بلدها، فحوّلها القائمون على الدولة لمشكلة دولية، كان من الواضح –منذ البداية وبقليل من المنطق في الحسابات- أنها أزمة خاسرة مقدمًا.
فتاة أرادت الفرار إلى الغرب، رأت في قيم الحضارة الغربية وحريتها غير المحدودة هدفًا، يستحق أن تلعن نفسها وأسرتها وتدين بلادها، الحساب المنطقي والسياسي يقول إن ذهابها ليس إلا خسارة فرد واحد، في مقابل مئات وألوف يفدون إلى المملكة وغيرها من الدول الإسلامية للتحول الديني، أي أن أضعاف من يقرر الخروج يختار الإسلام، ويختار المجتمعات العربية، بلا ثمة ضغط، أو شبهة تخويف، ولم يثبت ولن يثبت أن أحدهم قد حصل على حقوق مقابل اختياره، أكثر من غيره.
كانت معادلة بسيطة، تخاطب العقل فورًا، بمنطقية وبلا تشنج، فلتذهب، وسوف يهتم الإعلام بها لأسابيع، وربما يزيد الإعلام الجديد "مواقع التواصل الاجتماعي" من الاهتمام بها لشهر أو اثنين، ماذا تأكل، وكيف تعيش، ومستوى الحياة والأمن الذي قررت الحكومة الكندية توفيره لها، ثم تذبل القضية وتموت من تلقاء نفسها، فالذاهب إلى الغرب بلا عودة قرر قطع خيوط اتصاله مع مجتمعه، ومهما كانت حصيلة تجربته في مجتمعات يعتبرها منغلقة، فإنها ستخرج بسرعة في عدة لقاءات، أو ربما مقالات، ثم تفاجأ بحقيقة أنها فقدت جذورها.
الفساد حصر اختيارات المسؤول الأول في طغمة قليلة الخبرة والإدراك، لا تعرف أن العالم تغير، والقواعد التي سارت عليها المملكة لعقود طويلة منذ إنشائها لا تصلح لعالم اليوم، فاستطاعت فتاة صغيرة السن، أن تصنع من وسائل تواصل على هاتفها أسلحة تضعضع بها أركان المملكة، والمتابع للإعلام الأوروبي والأميركي سيذهل من الحملة على المجتمع السعودي وعلى القيم العربية والإسلامية، وهي قيم لم تكن محلًا لمثل هذا الهجوم، حتى مع وجود داعش وبث عمليات الذبح والحرق، والغرب معبأ ضد المملكة منذ أزمة خاشقجي، التي ما إن هدأت إلا وظهرت أزمة جديدة، فانفتح الجرحان، وزاد الخرق على الراتق.
الحقيقة الوحيدة الظاهرة في قضية الفتاة "رهف" أن المملكة قررت خسارة كل معاركها، قبل أن تبدأ حتى، وإذا لم تقرر المملكة أن النهج الحالي سير على طريق سينتهي بمهلكة في التيه، فإننا حتما سننتهي إليها.