العربي الجديد-
تقف السعودية في الوقت الحالي أمام حرب على ثلاث جبهات يصعب معها على اقتصادها أن يأخذ نفساً في ظلّ الضربة القاضية التي وجَّهها فيروس كورونا المستجد لقطاع السياحة نتيجة لتعليق رحلات العمرة نحو البقاع المقدسة، وكذلك انهيار سعر النفط الذي انحدر إلى 33.8 دولاراً للبرميل يوم 13 مارس/ آذار 2020 بسبب الحرب النفطية الشرسة التي تقودها الرياض ضد موسكو، وتفشِّي فيروس كورونا الذي قوَّض الطلب على النفط في الصين ودول آسيوية أخرى وألقى بظلاله على آفاق النمو في المملكة، إضافة إلى الجولة الثانية من الاعتقالات التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان والتي تتضارب أسبابها ما بين تهم الخيانة وتدبير انقلاب والشائعات التي تحوم حول تدهور صحة الملك سلمان، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل يستطيع الاقتصاد السعودي الصمود أمام هذه الضربات العنيفة والمتوالية؟
تتمثَّل الضربة الأولى التي تلقَّاها الاقتصاد السعودي في الانتشار السريع لفيروس كورونا والذي دفع المملكة إلى تعليق أداء العمرة للمواطنين والمقيمين فيها، ومنع الدخول بالتأشيرات السياحية للقادمين من الدول التي يشكِّل انتشار الفيروس منها خطراً منذ 4 مارس/ آذار 2020 لكون الأماكن المقدسة والتي تستقطب ملايين الحجاج والمعتمرين كل عام مصدراً محتملاً لنقل العدوى، وهذا ما سيؤثِّر سلباً على إيرادات الحج والعمرة التي تعدّ ثاني أكبر مصدر للدخل في السعودية بعد النفط والبتروكيماويات، إذ تلعب الشعيرتان الإسلاميتان دوراً حيوياً للغاية في تدفُّق النقد الأجنبي وخلق فرص العمل وتحسين ميزان المدفوعات في المملكة.
كما تُمكِّن الشعيرتان السعودية من تحقيق إيرادات تصل إلى 12 مليار دولار سنوياً، منها ما يفوق 6 مليارات دولار في موسم الحج فقط، وكل هذه الأرقام ستهوي إلى القاع بسبب شبح كورونا الذي يعيق وفود أعداد كبيرة من المعتمرين الراغبين في أداء العمرة خلال شهر رمضان (24 إبريل/ نيسان)، وكذلك موسم الحج الذي سيحل في نهاية يوليو/تموز.
على كل حال فإن قرار السعودية بوقف العمرة هو قرار تُحمد عليه حفاظاً على أرواح مواطنيها وكافة الوافدين إليها، ولكن فقدانها أهمّ موسمين (العمرة والحج) على مدار العام ستترتَّب عليه خسائر مالية جمّة لم يحسب لها مصمِّمو "رؤية السعودية 2030" أي حساب.
وتكمن الضربة الثانية التي سينكمش على إثرها الاقتصاد السعودي في أسعار النفط التي تتدهور إلى أدنى مستوياتها جرّاء تفشي كورونا في الصين التي تعدّ أهمّ مصدر لطلب الطاقة في العالم وكذا في العديد من الدول الأخرى، لا سيَّما الآسيوية منها، وهذا ما أدَّى إلى تعطُّل المصانع وتقلُّص حركة السفر وتباطؤ أنشطة أخرى، وبالتالي سبَّب حدوث انكماش كبير في الطلب العالمي على النفط، فقد هبطت أسعار العقود الآجلة لخام برنت إلى 31.68 دولاراً للبرميل يوم 9 مارس 2020 لتسجِّل أدنى مستوى لها منذ يونيو/ حزيران 2017، بينما انخفض سعر خام غرب تكساس إلى 31.13 دولاراً للبرميل وهو أدنى سعر يسجِّله منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2014.
لقد أصبح الأمل في وضع حدّ لتهاوي أسعار النفط ضئيلاً للغاية، لا سيَّما بعد فشل منظّمة "أوبك+" في التوصُّل إلى اتّفاق حول خفض إنتاج النفط يوم 4 مارس 2020، حيث لم تتمكَّن السعودية من إقناع الدب الروسي بزيادة خفض إنتاج الخام لدعم الأسعار. ويكمن السبب وراء الشقاق بين أوبك وروسيا في المخاوف الروسية من شبح انهيار اقتصادها الذي يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة ورئيسها ترامب، حيث يحرص الدب الروسي على عدم تقديم أية تنازلات للخصم الأميركي.
ورداً على التعنُّت الروسي، أعلنت "أرامكو" عزمها رفع طاقتها الإنتاجية من 9.7 ملايين برميل يومياً إلى 12 مليون برميل، والأسبوع الماضي أعلن الرئيس التنفيذي للشركة أمين الناصر أن أرامكو تلقت تكليفا من وزارة الطاقة بزيادة قدرة إنتاج النفط لديها إلى 13 مليون برميل من 12 مليون برميل، بزيادة مليون برميل يوميا. لكن الطرف الروسي متمرِّس بردّ الصاع صاعين، فقد أعلن عزمه أيضاً زيادة إنتاج النفط بما يتراوح ما بين 200 و300 ألف برميل يومياً خلال المدى القصير، ولم يكن بوسع دول خليجية الأخرى التغريد خارج السرب، لذلك أعلنت الإمارات عن قدرتها على رفع إنتاجها من النفط بواقع 4 ملايين برميل يومياً، كما قرَّرت الكويت خفض أسعار بيع النفط الخام للمشترين الآسيويين، وستستمرّ المملكة في تجرُّع مرارة الخسائر.
من جهته أكَّد الدب الروسي قدرته على التكيُّف مع سعر النفط المُقدَّر بـ25 دولارا للبرميل لمدّة قد تصل إلى عقد من الزمن. وفي الوقت الذي لا يعرف فيه من سيصمد لمدّة أطول، ستحرص هذه الحرب النفطية الشرسة بين محمد بن سلمان وبوتين على عدم تعافي أسعار النفط وعدم وصولها للحدّ الذي تتنفَّس معه الميزانية السعودية الصعداء. وستواجه المملكة صعوبة كبيرة في تحقيق التوازن بميزانياتها لأنّها قامت بإعداد تقديرات ميزانيتها على أساس سعر مرجعي 50 دولاراً للبرميل تحسُّباً للسيناريوهات السيئة للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وعدم اتِّخاذ المملكة إجراءات تحوطية ستعيقها حتماً عن المضي قدماً في إنجاح برامج "رؤية 2030" الطموحة بشكل مفرط لا يتناسب مع واقع وحال العوامل المؤثرة على الإيرادات المغذية لتلك الرؤية.
وفي الوقت الذي لم يستوعب فيه بعد الاقتصاد السعودي مدى قوة الضربتين السابقتين، وجَّه إليه ولي العهد محمد بن سلمان ضربة ثالثة أعنف من ذي قبل من خلال قيامه بحملة ثانية من الاعتقالات شملت أبرز أعضاء العائلة المالكة في 6 مارس 2020. ويمكن وصف الخطوة الاستباقية بأنّها مصممة لتعزيز وإحكام قبضته على الحكم من خلال إزاحة النقاد وإسكات المعارضة في الداخل والخارج. ونزل خبر توقيف الأمراء النافذين في العائلة الحاكمة كالصاعقة على البورصة السعودية التي تراجعت بأكثر من 6.5 بالمائة في بداية تعاملات الأحد 8 مارس 2020، كما هبط سهم أرامكو إلى ما دون سعر الطرح الرئيسي المقدَّر بـ32 ريالا أي 8,5 دولارات في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2019 إلى 31.7 ريالا أي 8.2 دولارات في 8 مارس 2020.
أهمّ ما يبحث عنه المستثمر الأجنبي في البلد المضيف هو البيئة الاستثمارية الموثوقة والآمنة والمستقرّة، وهذا ما تفتقر إليه المملكة حالياً، حيث توحي حملة الاعتقالات الأخيرة لأي مستثمر سواء محلي أو أجنبي بأنّ المناخ الاستثماري السعودي أصبح على حافة بركان ربّما يكون الأخطر في تاريخ المملكة.
خلاصة القول أنّ تلك الضربات الموجعة والمتتالية حكمت على "رؤية السعودية 2030" بالفشل، وإن استمرّ ولي العهد في انتهاج مثل هذه السياسات يعمق من انعدام اليقين وزعزعة الاستقرار وتنفير المستثمرين، وبذلك لن يصبح لخططه الاقتصادية الهادفة إلى جعل المملكة وجهة استثمارية أي معنى.