تجد السعودية نفسها في وضع لا تحسد عليه خلال محاولتها تعظيم عائداتها النفطية في سوق كارثية، مع إصلاح الضرر الذي تسببت فيه لعلاقتها الطويلة مع الولايات المتحدة وعلاقاتها الوليدة مع روسيا.
وفي واشنطن، يزداد ضغط الكونجرس لمعاقبة الرياض على دورها في الإضرار بصناعة النفط الأمريكية. وبالنسبة لموسكو، تسير شهور من الدبلوماسية الهادئة مع السعوديين نحو الانهيار نتيجة الخلاف.
وأدى قرار السعودية ببدء حرب أسعار النفط، على أمل معاقبة روسيا لرفضها التوقيع على اتفاقية جديدة للحد من إنتاج "أوبك+"، إلى هذا المأزق، في حين ساهمت جائحة "كوفيد-19" في الوقت نفسه في انهيار الطلب العالمي على مصادر الطاقة.
وتسببت الخطوة السعودية في اتجاه أسعار النفط الضعيفة بالفعل نحو الانهيار؛ ما أدى إلى تدمير صناعتي النفط الأمريكية والروسية.
وأغضبت استراتيجية السعودية فتح حنفيات الإنتاج موسكو وواشنطن؛ حيث كان هدف المملكة انتزاع حصة من السوق بعيدا عن روسيا، وإصابة صناعة النفط الصخري الأمريكية بالشلل.
وفي الكونجرس الأمريكي، حيث رضخ العديد من الجمهوريين لسلبية الرئيس "دونالد ترامب" بشأن التحقيق في مقتل كاتب العمود في صحيفة واشنطن بوست "جمال خاشقجي" عام 2018، تتأرجح الآراء الآن حول الأضرار التي ألحقتها حرب الأسعار بصناعة النفط الصخري الأمريكية.
وفي غضون ذلك، لم تعد روسيا، التي شاركت في اتفاقات "أوبك+" تثق بالسعودية. كما أن موسكو لا تزال تشعر بالقلق من تخفيضات الأسعار على النفط التي عرضتها الرياض على عملائها الأوروبيين والآسيويين وسط النزاع في محاولة لانتزاع حصة أكبر من سوق الطاقة من يد روسيا.
وبالمثل، يشعر منتجو النفط الصخري الأمريكي بالغضب من حرب النفط التي شنتها الرياض، والتي أدت إلى وفرة في المعروض العالمي وأغرقت الخام الأمريكي إلى ما تحت الصفر للمرة الأولى على الإطلاق.
ومع ذلك، قد يجد منتجو النفط الأمريكيون بعض العزاء في معرفة أن ناقلات النفط السعودية قبالة ساحل المحيط الهادئ الأمريكي تنتظر تفريغ نفطها في دولة غارقة في إمداداتها، وهي علامة على أن الناقلات السعودية قد تحتاج في الواقع إلى نقل خامها إلى مكان آخر.
السياسيون الأمريكيون غاضبون من الرياض
والشهر الماضي، لجأ أعضاء بارزون في الكونجرس الأمريكي إلى "ترامب" للتدخل نيابة عن صناعة النفط الصخري الأمريكية، زاعمين أن تدفق النفط السعودي إلى السوق كان تهورا، ولم يضر فقط بصناعة النفط العالمية، ولكن أيضا بالاقتصاد العالمي الأوسع.
وفي عام 2018، رفض "ترامب" طلبا مدعوما من الحزبين من مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي لمعاقبة السعودية على الدور الذي لعبه العديد من كبار المسؤولين السعوديين في مقتل "خاشقجي" بالقنصلية السعودية في إسطنبول.
وكان "ترامب" دافع عن قراره على أساس أن السعودية تقدم خدمة للولايات المتحدة والاقتصاد العالمي من خلال العمل مع روسيا لزيادة أسعار النفط.
لكن هذه المرة يؤكد بعض أعضاء الكونجرس أن دفاع "ترامب" السابق نيابة عن السعوديين، الذين كانوا يدعمون أسعار النفط العالمية، لم يعد صالحا.
وعلى العكس من ذلك، يؤكد النقاد أن حرب الأسعار التي خلقتها السعودية تسببت في انهيار الأسعار ووضع شركات النفط الأمريكية على حافة الانهيار.
العلاقات السعودية مع روسيا تنهار أيضا
وكانت أسعار النفط متراجعة عام 2016 عندما اقترحت السعودية على روسيا الدخول في شراكة مع "أوبك" لتعزيز الأسعار. ورأت الرياض أن الأسعار ستظل منخفضة ما لم تنضم موسكو إلى الجهود الذي تقودها المملكة في خفض حصص الإنتاج. ووافقت موسكو، وتم التوقيع على أول اتفاقية لـ"أوبك+"، وتمديدها مرتين بعد ذلك.
لكن موسكو رفضت التمديد الثالث في مارس/آذار، تحت ضغط من أباطرة النفط الروس المقربين من الكرملين، الذين عارضوا بشكل عام تخفيضات الإنتاج. وبدأ السعوديون حرب الأسعار ردا على رفض روسيا.
وبحلول الوقت الذي تدخل فيه "ترامب" في منتصف أبريل/نيسان، كانت كل من صناعة النفط الروسية ومنافستها الأمريكية في حالة تراجع.
وفقط بعد مفاوضات ثنائية مكثفة انضمت روسيا إلى السعودية في صياغة اتفاق "أوبك+" الجديد، وإن كان اتفاقا بشروط أقل تفضيلا لموسكو من تلك التي تم رفضتها في مارس/آذار الماضي.
ثم تراجع السعوديون عن تعهدهم بالاستحواذ على حصة مهيمنة في أكبر مورد لمعدات النفط والغاز في روسيا، "نوفو ميت"، في خطوة كان الهدف منها تأكيد نفوذهم في سوق الطاقة العالمية.
وكافح المسؤولون الروس لإخفاء غضبهم من سلوك الرياض. واتهم الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" علنا "شركاء" بلاده، في إشارة إلى الرياض، بإشعال حرب الأسعار لإلحاق الضرر بصناعة النفط الصخري الأمريكي، وحاول إثارة العداء بين الولايات المتحدة والسعودية.
كما انتقد وزير الطاقة "ألكسندر نوفاك" السعوديين، واصفا قرارهم بالدخول في حرب أسعار والاستحواذ على حصص السوق الروسية بأنه "غير عقلاني".
هل جاءت المناورة السعودية بنتائج عكسية؟
وتاريخيا، اتبعت السعودية سياسة خارجية تتألف من وضع كل بيضها في سلة واحدة بالقرب من الولايات المتحدة.
واعتبرت الرياض أن اتفاق "أوبك+" مع موسكو خطوة مهمة نحو تحقيق علاقات أكثر توازنا مع القوى العالمية الكبرى. لكن حرب النفط أضرت بتلك الاستراتيجية نتيجة غضب كل من الولايات المتحدة وروسيا.
علاوة على ذلك، فإن للكارثة آثارا داخلية على السعوديين. وتعد خطة "رؤية 2030" الطموحة لولي العهد "محمد بن سلمان" بمثابة دفعة رئيسية لتنويع اقتصاد المملكة بعيدا عن الطاقة غير المتجددة.
ومع ذلك، يجب على السعوديين تعظيم أرباح النفط على مدى العقد المقبل من أجل توليد الأموال اللازمة لتحقيق هدف التنويع.
وبحسب الرياض، ستحتاج المملكة إلى الاستحواذ على حصة أكبر في سوق عالمية تزداد تنافسية، وهو هدف يتطلب تكتيكات عدوانية تخاطر بإثارة غضب كل من الولايات المتحدة وروسيا.
وكشفت العلاقة بين واشنطن والرياض توترا متزايدا في نصف العقد الماضي؛ حيث تحولت الولايات المتحدة من كونها مستهلكا رئيسيا للنفط السعودي إلى منافس في السوق.
وشعرت روسيا أيضا بتأثير المنافسة الأمريكية؛ حيث يعتبر إنتاج النفط الصخري الأمريكي بكميات هائلة السبب وراء فائض النفط العالمي الذي خفض الأسعار.
وفي الآونة الأخيرة فقط، اعتقدت روسيا أن التحالف مع السعوديين يمكن أن يواجه المنافسة الأمريكية. لكن الرياض قوضت سمعتها كمثبت لأسواق النفط عندما غمرت السوق العالمية بخام مخفض في خطوة انتقامية تجاه موسكو.
ويجب على المملكة الآن أن تتسم بالدهاء في علاقاتها مع كلا البلدين، وإلا فإنها تخاطر بخسارة الشراكة مع الولايات المتحدة وروسيا معا.
رؤوف مامادوف/منتدى الخليج الدولي-