الخليج الجديد-
"تراجع حاد في أسعار النفط، وزيادة نسبة ضريبة القيمة المضافة، وإيقاف بدل غلاء العيشة".. 3 مؤشرات متلاحقة زادت من الشكوك حول مستقبل رؤية ولي العهد السعودي، وحاكم المملكة الفعلي "محمد بن سلمان"، المعروفة إعلاميا بـ "السعودية 2030"، والتي تستهدف تحرير اقتصاد المملكة من الاعتماد الأحادي على النفط كمورد رئيس، وطرحت تساؤلات ليس فقط حول فرص نجاح الرؤية بل حول فرص استمرارها من الأساس.
وتعززت هذه الشكوك من تخفيض المحللين توقعاتهم بشأن معدلات نمو أكبر اقتصاد في العالم العربي للمرة الثانية في غضون بضعة أسابيع، خاصة بعدما أعلنت الرياض، في 11 مايو/أيار (نفس يوم فرض إجراءات التقشف)، عن تخفيض جديد في إنتاج النفط بمقدار مليون برميل يوميا بدءًا من يونيو/حزيران المقبل، بخلاف ما تم إقراره في أبريل/نيسان الماضي بموجب اتفاق "أوبك بلس" الجديد، وهو ما يرفع إجمالي حصة المملكة من الخفض إلى نحو 4.8 ملايين برميل يوميا ليبلغ الإنتاج أدنى مستوى له في عشرين عاما.
ومع انهيار عائدات النفط، لجأت الحكومة السعودية إلى احتياطيات النقد الأجنبي لدى مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي)، التي انخفضت بدورها في مارس/آذار الماضي بأسرع وتيرة تشهدها خلال 20 عاما بعدما سجلت المملكة عجزا في الميزانية بلغ 9 مليارات دولار في الربع الأول من العام الجاري.
وإزاء ذلك، يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد السعهودي بنسبة 2.3% هذا العام مقارنة مع نمو هزيل بلغ 0.3% في 2019، وهي توقعات قاتمة ليس من المرجح أن تنجح إجراءات التقشف وحدها في معالجتها وفقا لرأي مدير الوحدة الاقتصادية في مركز الخليج للأبحاث "جون سفاكياناكيس"، الذي يرى أن زيادة نسبة ضريبة القيمة المضافة تحديدا سيؤثر سلبا على الاستهلاك وسيضر بالقدرة التنافسية للمملكة.
من جانبه، اعترف وزير المالية السعودي "محمد الجدعان" بالتحدي الذي تمثله إجراءات التقشف والتي تتضمن تخفيضات للإنفاق الجاري والاستثماري في الدولة، واصفا هذه الإجراءات بأنها بأنها "مؤلمة لكنها ضرورية".
القطاع الخاص في مأزق
يعد القطاع الخاص في المملكة على رأس المتضررين من إجراءات التقشف، رغم أنه يعتبر محور رؤية "بن سلمان" لتنويع موارد الاقتصاد.
وتشير التوقعات إلى أن رفع ضريبة القيمة المضافة بمقدار ثلاثة أضعاف ووقف صرف بدل غلاء المعيشة للعاملين بالدولة قد يعمل على تعميق الركود في أكبر الاقتصادات العربية ويؤخر توفير الوظائف، خاصة أن أغلب مجالات الأعمال تعاني بالفعل من ضعف الطلب بسبب القيود المفروضة لاحتواء فيروس كورونا المستجد، وفقا لما أوردته "رويترز".
في الوقت نفسه، من المرجح أن تحد السياسات التقشفية من القدرة التنافسية للاقتصاد السعودي مقارنة ببقية الدول الخليجية، خاصة على صعيد جلب الاستثمارات الأجنبية، حسبما ترى الباحثة المقيمة بمعهد "أميركان إنتربرايز" في واشنطن "كارين يانج"، مشيرة إلى أن "الدولة هي التي ستوجه عملية النمو" على الأرجح، وهو ما يخالف ما تنص عليه رؤية "بن سلمان"، التي ترى القطاع الخاص كمحرك رئيسي للنمو.
وبينما يمكن أن توفر زيادة ضريبة القيمة المضافة بعض الإيرادات الإضافية المحدودة للدولة، فإنها ستزيد من حدة الركود الاقتصادي حسب ترجيح الخبير الاقتصادي "ناصر السعيدي"، وستضيف صدمة لا داعي لها للنظام السعودي في وقت تكافح فيه الأعمال للحفاظ على استمرار نشاطها وتشهد فيه الأسر انخفاضا في دخلها ويعود فيه الوافدون الذين أصبحوا بلا عمل إلى بلادهم.
ولذا فإن التحدي الأكبر الآن أمام الاقتصاد السعودي هو الحفاظ على القدرة التنافسية أمام الدول المجاورة، التي تتميز بنسب منخفضة لضريبة القيمة المضافة ومعدلات ضريبية أقل بشكل عام، خاصة الإمارات وقطر، اللتين تتمتعان ببنية تحتية أكثر تطورا، ويتمتع الأجانب فيهما بقدر أكبر من الحريات الفردية، وفقا لتحليل نشره الخبير الاقتصادي "طارق فضل الله" في وكالة "بلومبرج".
وإذا كان القطاع الخاص هو الركيزة الأساسية للقدرات التنافسية، فإن إجراءات التقشف الأخيرة تمثل تحديا حقيقيا للاقتصاد السعودي على المدى المتوسط والطويل. لكن الأمر يتعدى المجال الاقتصادي هذه المرة إلى ما هو أبعد ويمس مستقبل نظام المملكة السياسي نفسه.
العقد الاجتماعي
فمع ارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض مستوى الدخل، فإن "العقد الاجتماعي" القائم بين السلطة والشعب في المملكة أصبح مهددا، حسب تقدير نشره موقع المعهد الإيطالي للدراسات السياسية.
ورغم أن السعودية ليس لها دستور مكتوب، إلا أن العلاقة بين السلطة والمجتمع فيها قامت تاريخيا على تحاشي اتخاذ خطوات من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر على مستوى معيشة المواطنين، في صفقة ضمنية تلتزم بموجبها الحكومة بتوفير الرفاه وتوزيع عائدات الثروة النفطية على الشعب، مقابل الحصول على الشرعية السياسية.
ولكن مع التوسع في سياسات التقشف، في الوقت الذي تتزايد فيه معدلات البطالة بين السعوديين إلى 12% والخسائر التي مني بها مشترو أسهم أرامكو من السعوديين، يمكن استشراف حالة إحباط اجتماعي واسعة في المملكة.
وقد دفع ذلك كثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى تداول صور للملك الراحل "عبدالله بن عبدالعزيز"، تذكروا خلالها أيام "الرخاء" الخوالي، في إشارة قرأها مراقبون بوصفها علامة على وجود حالة تذمر من داخل قطاعات مؤيدة تقليديا للنظام السعودي، ناهيك عن الرمزية التي يمثلها الملك الراحل "عبدالله" بالنسبة إلى ولي العهد "محمد بن سلمان"، بالنظر إلى أن ولي العهد يستهدف بشكل خاصة أبناء عمه الراحل بوصفهم أبرز منافسيه على العرش.
ورغم أن أنصار "بن سلمان" أطلقوا وسما تحت اسم "سمعا وطاعة في المنشط والمكره" في محاولة لتوجيه النقاش الاجتماعي نحو تأييد السلطة، إلا أنه لم ينتشر بشكل كبير مثلما يحدث عادة رغم تبنيه من قبل الذباب الإلكتروني. وقدمت "حرب الوسم والصورة" تلك مؤشرا على أن قاعدة تأييد ولي العهد تشهد ضعفا وسط تنامي أصوات التذمر والاستياء تحت وطأة إجراءات التقشف، حسبما نقلت رويترز عن دبلوماسي سعودي (لم تسمه).
حلول محدودة
في هذه الظروف المعقدة، تبدو الحلول أمام المملكة لحل أزمة العجز المتفاقم بالموازنة والأثر المتوقع لسياسات التقشف محدودة للغاية خاصة في ظل عدم رغبة المملكة في تخفيض قيمة عملتها حسب تقرير نشره "ماثيو مارتن" و"فيفيان نيريم" بوكالة "بلومبرج".
من هذه الحلول تعليق خطط العديد من المشروعات الكبرى في رؤية ولي العهد السعودي، وعلى رأسها خطط إنشاء مدينة نيوم المستقبلية التي خُصّص لها مبلغ 500 مليار دولار، والخروج من الصراع المكلف في اليوم، وتعزيز المشاريع والبرامج الترفيهية لاحتواء السخط الشعبي حيال إجراءات التقشف.
ورغم ذلك، من الممكن أن يجبر الاستياء المكتوب السلطات السعودية في النهاية على عكس إجراءات التقشف، كما جرى عام 2017 حين تم التراجع عن إلغاء عدد من البدلات لعمال القطاع العام بعد أشهر قليلة من فرضها، بسبب ردود الفعل الغاضبة تجاهها.
تبدو المملكة إذن على وشك مواجهة تحديات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة في تاريخها الحديث، وليس من المستبعد أن تكون رؤية ولي العهد السعودي هي الضحية الأولى لهذه التحديات.