مبارك الفقيه- راصد الخليج-
في حمأة الغرق الأمريكي في مستنقع الكورونا اندلعت في أبريل / نيسان الماضي حرب النفط بين روسيا والسعودية، فانهارت أسعار الذهب الأسود في البورصة العالمية لتواجه الولايات المتحدة خطر كساد خطير، فيما أزمتها الاقتصادية تتعمّق من جرّاء توقّف حركة الإنتاج وإغلاق البلاد الموبوءة بفايروس الموت..أطلقت واشنطن سلسلة تحذيرات للرياض بضرورة وقف "مذبحة النفط"، وحين لم تلقَ أذناً صاغية اتّصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بولي العهد محمد بن سلمان، ليوجّه له إنذاراً مباشراً، وبنبرة لا تخلو من التهديد: "إذا لم تبدأ أوبك بخفض إنتاج النفط، فانتظر قراراً من مجلس الشيوخ بسحب القوات الأمريكية من السعودية".
اتصال واحد كان كافياً لإعادة الأمور إلى نصابها في سوق النفط، ليستأنف ترامب أجندة مواجهته اليومية على خطين، الأول: القضاء على فايروس كورونا وتبعاته الاجتماعية والاقتصادية، والثاني: استيعاب موجة الغضب الداخلي واحتواء التصدّعات التي ضربت بنية إدارته في ظل انقسام متعدّد الأبعاد في تركيبة النظام السياسي؛ أما في المقلب الآخر فقد أطلق تهديد ترامب نقاشات جدّية في البلاط السعودي عن مدى قابلية واشنطن الفعلية لإنهاء الشراكة الاستراتيجية المستمرة منذ أكثر من 75 عاماً.
قضى الاتفاق، الذي يتجدّد كل أربعين عاماً منذ العام 1945، بأن تتولّى الولايات المتحّدة حماية المملكة مقابل التنعّم بالنفط السعودي والإبقاء على احتياطي النفط الأمريكي دون مساس، ويتنشر اليوم حوالي ثلاثة آلاف جندي أمريكي في المملكة مدعومين بالأسطول الخامس لحماية صادرات النفط من المنطقة.
كانت التهديدات والأطماع الأوروبية بالنفط تقضّ مضاجع الحكم في السعودية في منتصف القرن العشرين، وأصبح التهديد من الجار الإيراني وسعيه إلى تصدير "الثورة الإسلامية" إلى دول المنطقة، مع أن التاريخ لم يسجّل أي صدام عسكري بين الجارين منذ أن أسقط الخميني حكم الشاه حتى اليوم، لا بل هناك حديث قديم - جديد عن قلق إيراني وعربي من طموح سعودي تاريخي بالتمدّد في دول المنطقة بدعم أمريكي، على غرار الغزو الوهّابي للدول المجاورة للجزيرة العربية قبل مئتي عام بدعم وتحريض بريطاني.
اليوم بدأت معادلة التاريخ تتّخذ سمة جديدة من التشكّل مع توالي التطوّرات الإقليمية والدولية، فيما تقع المملكة في وسط المحور المليء بالمستجدّات المتسارعة، وهي لا تزال تصر إلى إبقاء الارتباط العضوي بالمتغيّرات الأمريكية بقطع النظر عن شكل وهوية الرئيس وبنية الإدارة، جمهورية كانت أو ديمقراطية، ولكنها المرّة الأولى التي تتلقّى فيها الرياض تهديداً مباشراً من واشنطن بالتخلّي عن حمايتها، وهي التي بادرت خلال أزمة النفط في عهد الرئيس جيمي كاتر عام 1973 إلى اعتماد سياسة التدخّل المباشر، وفرض احتلال مباشر للسعودية لحماية مصالحها النفطية، والحيلولة دون مواجهة "تمرّد" سعودي جديد على القرار الأمريكي.
هذه المعطيات الحذرة كلّها تبدو شاخصة أمام ابن سلمان، الذي يرقب إرهاصات انسحاب عسكري أمريكي من المنطقة، بدأ في أفغانستان ولن ينتهي في العراق، ويسجّل محطات سقوط الإدارة الأمريكية أمام العناد الإيراني منذ ضربة عين الأسد في العراق وصولاً إلى كسر الحصار البحري على شواطئ فنزويلا، دون أن يبادر ترامب الغارق في إحفاقاته الداخلية والخارجية إلى أي خطوة من شأنها إعادة الاعتبار للهيبة الأمريكية المنتهكة.
لا يمكن التغافل عن حالة التهالك التي أصابت النظام السياسي في واشنطن في ظل إدارة ترامب، فالاجتياح الكوروني للولايات المتحدة ترك تداعياته الإجتماعية والإقتصادية العميقة. والفوضى التي سبّبتها عنجهية الرجل في استيعاب قضية مقتل المواطن الأسود جورج فلويد على يد الشرطي الأبيض فتحت الباب واسعاً أمام اضطراب داخلي واسع، ودفعت إلى انطلاق حملة عالمية تحت عنوان مكافحة العنصرية، وجرّأت زعماء دول العالم، من الحلفاء والأخصام على حد سواء، على انتقاد ترامب وعنصريته على أبواب الإنتخابات الرئاسية، ولا يتردّد مسؤول برنامج الاستخبارات في معهد بروكينغز بروس ريدل بالقول: "نحن لا نحتاج السعودية.. والشيء الوحيد الذي يمسك بالعلاقة السعودية - الأمريكية اليوم هو ترامب، ويمكن أن يتغيّر كل هذا في حال تم انتخاب جوزيف بايدن"، الذي اعتبر السعودية أنها منبوذة ووعد بقطع صفقات السلاح معها.
العالم يشتعل والهزّات السياسية تتوالى في كل مكان، وسياسة الصمت وانتظار ما يحصل في الحقل الأمريكي لا تنفع لبناء الحسابات على البيدر الإقليمي والدولي، ولا يمكن للمملكة أن تنأى بنفسها عن كل ما يجري وتبقي نفسها في حالة عداء مع محيطها القريب وفي عزلة عن امتدادها نحو الشرق على وجه الخصوص، لا سيّما أن الجار الإماراتي اللدود، الطامح إلى لعب دور أكبر في المعادلة الإقليمية والدولية، اندفع في الوقت الضائع واستبق المراحل، ليحدّد تموضعه في الخارطة المرسومة للمنطقة من البوّابة الإسرائيلية، وهي خطوة لا تستطيع السعودية الإقدام عليها بدون أفق واضح حفاظاً على موقعها الرائد في العالم العربي والإسلامي، ولا يمكن للرياض أيضاً أن تبقي على ربط قرارها ومصيرها بالترمومتر الأمريكي الذي بدأ ينحدر في خط النزول.
إن الإصلاحات الدينية والثقافية والاجتماعية التي بدأت في المملكة من شأنها أن تهدّئ مخاوف الجيران التي نشأت على أساس الحلّم الوهابي، وقد تسهم في تقديم السعودية بوجه انفتاحي مقبول، وعليه فقد آن الأوان للخروج من حالة الخوف وإعادة الحسابات الاستراتيجية باتجاه ترتيب علاقاتنا مع دول الجوار، والإقلاع عن لعب دور "البقرة الحلوب" الذي يستنزف اقتصادنا ويضرب بناه، ووقف الاستغراق في استهلاك الموارد في حرب هنا أو تمويل هناك، فاستمرار الهدر الحالي يفاقم العجز ويهدّد المشاريع المستقبلية بما يجعل من المملكة دولة محليّة فاقدة الأهلية على اتخاذ قرارها بنفسها، وبذلك لا نبقى تحت رحمة إنذار أمريكي ولا أي تهديد خارجي.