(مبارك الفقيه/ راصد الخليج)
تفرض المواقف الجديدة التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان حيال الإيرانيين والحوثيين والقضايا المتعلّقة بهم إجراء مقاربة جديدة لرؤية المملكة السياسية تجاه الجوار والمنطقة، ترتكز على رصد نقاط التطوّر في النظرة إلى الملفات الحيوية ودورها في تعديل البناء المستقبلي الذي يريده ابن سلمان للبلاد على ضوء رؤيته 2030.
يتقصّد ولي العهد أن تكون مقابلاته صادمة، وأن تحمل مضامينها الكثير من الحداثة في تحليل المستجدّات، والمواكبة لما يحصل على المسرحين العربي والدولي، ولكن المقابلة الأخيرة على شبكة "روتانا" كانت الأكثر دفعاً إلى الاستغراب في مواقفها ورسائلها، فهي لم تأتِ في السياق الطبيعي لتراكم وتسلسل المواقف السياسية المعتادة للرياض، ولا سيّما تجاه إيران، بل جاءت في الإتّجاه المعاكس، وفي مرحلة حساسة جداً تشهد تحرّكات راديكالية حامية من قبل الإدارة الأمريكية على خطّ العلاقة المتوتّرة مع الشّرق ولا سيّما مع الصين وروسيا.
لم يأتِ ابن سلمان بشيء جديد حين قال إنّ "إيران دولة جارة، وإن ما تسعى له السعودية هو علاقة طيبة ومميّزة معها بما يخدم مصالح البلدين"، فهذا الموقف سبق أن أعلنه جهراً الملك فهد بن عبد العزيز والملك عبد الله حين كان ولياً للعهد وبعد أن أصبح ملكاً، وكانت العلاقة السعودية - الإيرانية آنذاك تتأرجح بين حبال التوتّر وبين محاولات التّوفيق التي لعب الملك عبد الله والشيخ هاشمي رفسنجاني دوراً أساسياً فيها، وكادت الأمور أن تصل إلى خواتيم غير مسبوقة في مستوى العلاقات والاتفاقات السياسية والاقتصادية، لولا أن منع التدخّل الأمريكي والضغط الإسرائيلي أي سبيل للتّقارب بين الرياض وطهران، وساهم في نجاح هذا المسعى الفتنوي انقطاع الطرفين عن التّواصل إلى حدّ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ولكن لا بدّ بالفعل التوقّف جدّياً عند المنعطف السياسي الجوهري الذي برز في كلام ولي العهد، فقبل سنوات وتحديداً بتاريخ 15/3/2018، وقبل خمسة أيام من لقائه بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أطلق ابن سلمان مواقف نارية تجاه إيران اتّهم فيها المرشد الإيراني علي خامنئي، بأنّه "يريد إقامة مشروع شرق أوسطي خاص به مثلما أراد هتلر التّوسع في زمنه"، وقال: "تعلّمنا من أوروبا أنّ التهدئة لا تنفع، ولا نريد أن يتمكّن هتلر الجديد الإيراني من أن يكرّر في الشرق الأوسط ما حدث في أوروبا" معتبراً أنّ "الهدف الرئيسي للنّظام الإيراني الوصول إلى قبلة المسلمين، ولن ننتظر حتّى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لكي تكون المعركة عندهم في إيران"، ولم يكتفِ بالمنحى السياسي بل طالت مواقفه المبنى العقائدي للشيعة، فقد جزم في واحدة أخرى من مقابلاته المثيرة للجدل بالقول: "نحن لا نستطيع التّفاهم مع نظام متطرّف یحاول السیطرة علی المسلمین، ونشر المذهب الجعفري في العالم ويروّج لظهور المهدي".
يومذاك ظنّ السامع وكأنّ طبول الحرب تُقرع في الرياض ويدوّي صداها في طهران، وأنّ ابن سلمان قد أعدّ العدّة للمواجهة الشاملة، في وقتٍ كانت حرب اليمن تمضي في استنزاف قدرات المملكة الاقتصادية والاجتماعية، وتهدّد استقرار المدن الداخلية والمطارات والمواقع الحيوية، فضلاً عن التّهديد الجدّي لاستمرارية مشروعه الكبير 2030، ولم تجنِ الرياض من واشنطن سوى الوعود الكاذبة والإهانات المباشرة التي كان يكيلها دونالد ترامب للملك سلمان والحكم في السعودية، إلى أن جاء مطلع العام 2020 ليشكّل امتحاناً حقيقياً لمدى واقعية الرّهان السعودي على الأمريكي، وكذلك لمدى قدرة الأمريكي على إقحام نفسه في خِضَم معادلة ميدانية نارية، فأقدم ترامب على قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقيادي العراقي أبو مهدي المهندس، وبعد أقل من أسبوع تقصف إيران بصواريخها الباليستية المدمّرة التجمّعات الأمريكية في قاعدتي "عين الأسد" وأربيل في العراق.
كانت صدمة لدول الخليج وكذلك لواشنطن، فقد كانوا يستبعدون الرّد الإيراني وبهذه السرعة، وبذلك لم تجد الدول العربية وعلى رأسهم السعودية، إلّا أن تستنفر أسلحتها الدبلوماسية لتهدئة الوضع وعدم التّصعيد، فيما لخّص جو بايدن آنذاك غالبية المواقف بالقول إنّ "ترامب ألقى بإصبع ديناميت في برميل بارود متفجّر"، وأفضى الرّد إلى خلاصة فرضت ذاتها في معادلة الاستقرار في المنطقة، ممّا ألزم واشنطن ودول الخليج وأوروبا بإعادة حساباتها، وانتهاج سياسة التعقّل والواقعية في التعامل مع إيران، بعيداً عن العنتريات في المواقف التي تبخّرت مع انفجار الصواريخ الإيرانية.
ويبدو أنّ الأمير الشاب أجرى مراجعة نقدية للتّطورات السابقة، فاتّخذ الشرق وجهةً سياسية لأدائه الداخلي والخارجي، ولا سيما بعد خذلانه من رئيس أمريكي سابق وخيبة أمله من رئيس حالي، ويعلم ابن سلمان تماماً أنّ إيران ومعها الصين وروسيا في محور الشرق، يقف في موقع المواجهة مع محور الغرب الذي يضمّ أمريكا وأوروبا، وبالتالي فلا بدّ لخطب ودّ الشرق أن يَطرق الباب في طهران.
وبرزت نقاط هذه المراجعة في معرض كلام ابن سلمان في المُقابلة الأخيرة، في عبارات مقصودة السّبك والتّوجيه، لتبعث رسالة مثلّثة الاتجاهات إلى كلّ من واشنطن، وطهران وعبرها إلى روسيا والصين، وإلى دول الخليج. فبعد أن شدّد ابن سلمان على "سعي الرياض مع شركائها إلى حلّ الإشكاليات القائمة مع طهران حول بعض المواضيع"، قال بما يشبه التّصريح: "لا نريد أن يكون وضع إيران صعباً، بالعكس، نريد لإيران أن تنمو وأن يكون لدينا مصالح فيها، ولديها مصالح في المملكة العربية السعودية لدفع المنطقة والعالم للنمو والازدهار".
أصبح ابن سلمان اليوم يرى إيران قطباً محورياً في استقرار وازدهار المنطقة والعالم، ولطالما دعوت في مقالات سابقة المسؤولين في البلاط ليعوا بأنّ إيران بلد ذو حضارة ضاربة في عُمق التاريخ، وهي شئنا أم أبينا جار تاريخي فرضه عامل التاريخ والجغرافيا، وكم هو مهمّ تثمير التّواصل بين مسؤولي البلدين وصولاً إلى إعادة العلاقات إلى طبيعتها، وهذا من مصلحة المملكة في الدرجة الأولى، فإنّ أي زلزال يحصل في المنطقة سيجعل من السعودية معزولة فيما واشنطن وتل أبيب مشغولتان بحماية نفسيهما، فلا صواريخ باتريوت استطاعت أن تمنع قصف "عين الأسد" في العراق، ولا قبة حديدية نجحت في اعتراض صاروخ طَرق أبواب مفاعل ديمونا..
ومن هنا فإنّ المطلوب ألّا تكون هذه المواقف مجرّد "حركشة" سياسية لاستفزاز واشنطن ودفعها إلى إيلاء الرّياض وولي العهد الاهتمام المعهود، بل لا بدّ أن تكون مقدّمة لمرحلة جديدة وفاتحة لعلاقة مستقرّة مع الجار الإيراني وكذلك مع الروسي والصيني، وتقود إلى إرساء قاعدة تخرج فيها الرياض من قيد الارتهان للقرار الأمريكي - الغربي، أمّا الخطر القادم فهو آتٍ من أبو ظبي مع التّغلغل الإسرائيلي الذي لا يحمل معه سوى الخراب لاقتصاديات العواصم العربيّة.