(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
يتّفق كلّ محلّلي السياسة أنّ العصر الحالي في العالم، وفي القلب منه منطقة الشرق الأوسط، هو أكثر الفترات الحرجة التي مرّت على العالم العربي، سيولة شديدة في الحركة، وتفاعلات كثيرة عند القمّة، وغليان أخطر عند القاع، ونُخَب بدأت تفقد السيطرة الكلية على مجتمعاتها، بفعل الإعلام البديل ممثّلًا في وسائل التّواصل الاجتماعي، وكسر الاحتكار التاريخي للمعلومات محليًا وعالميًا.
وفي القلب من هذا الفوران كلّه، لا يستطيع أي نظام سيطرة، مهما بلغت حدود قوّته، استبعاد دخول مستقبل العرش السعودي، وللمرّة الأولى على الإطلاق، في توقّعات العامّة وأحاديثهم، وبالتالي صناعة رأي عام حول الملك القادم للسعودية، ومهما بدا من ضعف حدود هذا الرأي العام على فرض ما يتمنّاه أو يفضّله، في الوقت الرّاهن على الأقل.
لم يعد سرًا أنّ الإدارة الديمقراطية للولايات المتّحدة الأميركية لا تفضّل ولي العهد الحالي محمد بن سلمان ليكون هو الملك المُقبل، وليس خافيًا أنّ العديد من حلفاء المملكة باتوا ينتظرون –ولو بدون دعوة- طرح وجهة نظرهم في الملك المُقبل، وأوّلهم الأنظمة الخليجيّة، وليس من قبيل التوقّع معرفة إلى أي مدى باتت فرصة ولي العهد في الجلوس على عرش السعودية صعبة، إن لم تكن ضربًا من ضروب الخيال المتفائل.
أسباب عديدة وراء قناعة الإدارة الأميركية، ومن ورائها المؤسّسات العتيدة الفاعلة في واشنطن، لقرار عدم التّعاون مع ولي العهد، وقصر تعاملها الرّسمي حاليًا على الملك سلمان وفقط، عقب جنوح الرئيس السابق دونالد ترمب إلى التأييد الكامل لخطوات الأمير بعزل ولي العهد السابق محمد بن نايف، والانقلاب العنيف الذي أحدثه في العائلة المالكة، لإفساح المجال أمامه لتولّي الحكم، وهي خطوات لم تكن في أي وقت محلّ ترحيب من الخارجية الأميركية والبنتاغون وسواهما من مؤسّسات الحكم الحقيقيّة في واشنطن، ولعلّ أهم الأسباب يكمُن في ما تتّسم به شخصية ابن سلمان من تهوّر شديد واندفاع جامح واستعداد دائم لتفجير المواقف، وهي صفات تهدّد ولا تطمئن الحليف الأكبر على مستقبل السعودية ككلّ.
ورغم أنّ الدول الخليجيّة سبق وأن قدّمت بيانًا غير مسبوق، يطلب من الإدارة الأميركيّة بقيادة جو بايدن، عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للسعودية، وكان ذلك استجابة لواقع غير مسبوق بدت فيه الولايات المتّحدة مانحة الشرعية للملك القادم، إلّا أنّ كلّ الأطراف العربية فوّتت اختلاف العصر الحالي عن الدخول الأميركي للمملكة في 1991، حين جرى إنزال قوات ضخمة بإذن سعودي مُسبق لتحرير الكويت، الآن لا تنتظر الولايات المتحدة إذنًا من أحد، بل هي موجودة بحكم مصالحها سلفًا، وليس هناك منافع لأحد، بل ضرائب مستحقّة، وسيدفعها الجميع للحليف الكبير، المأزوم بصراعه على قمّة العالم مع الصين، والراغب بشدّة في تهدئة وتيرة الصراعات في مناطق نفوذه التقليدية.
والحلّ الذي رآه الأمير لنفسه، هو خوض تجربته الجديدة وحدَه، وإعادة تقديم نفسه للإعلام الأميركي، من بوابة الرّجل القادر على صناعة السعودية الجديدة، المملكة العصرية التي تُضاهي وتُنافس الدول الأوروبية، وتحتضن الأحداث العالمية الرياضية والفنيّة، التي تُذاع في مختلف أرجاء العالم، حاملة معها هذه الصورة البرّاقة الجديدة كليًا للمملكة، ومعها صورة الحاكم الذي استطاع ما لم يستطعه غيره بهذه النّقلة الجريئة.
من مسابقات الفورمولا-1، والسّماح للفائز بالسباق البريطاني لويس هاميلتون بارتداء خوذة تدعم الشذوذ الجنسي، وسط انتقادات هائلة، ترى في محاولات الغرب الحثيثة فرض أجندة الحقوق على المجتمعات العربية والمسلمة أمرًا بات لا يُطاق، خاصّة مع تزامن الفعل القبيح في سباق السيارات بحملة عربية واسعة لدعم اللّاعب المصري محمد أبو تريكة في موقفه الرافض لهذه الشعارات القذرة والمنافية لكلّ دين.
وتكلّل الجّهد الهائل المبذول في تقديم صورة السّعودية الجديدة بافتتاح الدّورة الأولى من مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدّة، بحضور نجمات الشّاشات العربيّات من كلّ حدبٍ وصوب، ولازمته ما تلازم هذه المهرجانات من عُري يناسبها، ويزيد من الاحتفاء بصوَرها الخارجة عن المألوف، وإعادة نشرها آلاف المرّات، أراد الأمير تقديم كلّ ما يلزم لإثبات أنّ السعودية تغيّرت بشدّة تحت قيادته، تغييرًا على مستوى الفعل وليس فقط الكلام.
أراد الأمير تغيير الواقع، بتفجير ديناميت أسفل كل ثابت وراسخ من القيَم التّقليدية التي قامت واستمرّت عليها المملكة، وعبر الإعلام المسلّط ليل نهار على شوارع جدّة وحلبات سباقاتها ودور السينما فيها، خلق مناخًا من التّهويل والمزاعم واختلاق المشروع الوهمي الجديد، تمامًا كما يفعل أي صبي صغير استطاع سرقة نسخة من مفاتيح سيارة أبوه، فهو يغترّ بقدرته على القيادة وحده، ثمّ تخدعه السّرعة، فينجر إلى إطلاق الحدّ الأقصى من قدرات قد لا يجيد التّعامل مع عواقبها.
وفي مُقابل ما قد يكون تغييرًا في نظرة الأميركي خاصّة، والغربي عمومًا، لنظام الحكم السعودي الجديد، فقد ضحّى الأمير مقابله بما هو رضا وطني عن نظامه مقدّمًا، ومقابل تمنيّات لا أكثر ولا أقل، غير مُدرك إنّ الغضب من المشاهد الغريبة في جدّة يلمس الأعصاب العارية للمجتمع السعودي، يصفع الشباب في طوابير البطالة، ويرهق موازنات الأسَر –حتّى الميسورة- في موجة تقليد ما يرونه على الشّاشات، ويدفع بالمجتمع المحافظ دفعًا إلى تبنّي أكثر الدّعوات الغربيّة شذوذًا، أو الارتماء كلياً في أحضان التّطرف المُقابل، وهو الردّ الطبيعي والمنتظر من كلّ هذه التّصرّفات الشّاذة.