ليوناردو جاكوبو ماريا مازوكو- معهد واشنطن للدراسات-
في حين لا يزال الشرق الأوسط يعجّ ببؤر التوتر المعرّضة للاشتعال، تمدّ المملكة العربية السعودية يدها إلى إسرائيل وإيران في محاولة لنزع فتيل التوترات المتصاعدة والتوصل إلى توافق، مع تحول المملكة من نهج المواجهة إلى نهج المصالحة.
في ضوء الغموض الذي يكتنف مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، والتهديدات المتزايدة التي تلوح في الأفق بشأن الاستقرار الإقليمي، انخرطت المملكة العربية السعودية في عملية براغماتية لإرساء التوازن مع كل من إسرائيل وإيران. ومع أن المحاولة السعودية لبناء علاقات أفضل مع الإسرائيليين والإيرانيين في آن معًا تواجه عقبات محتملة كبيرة، تنمّ الخطوتان المزدوجتان عن جهود متضافرة لخفض الاحتدام السياسي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد سلطت زيارة بايدن الأخيرة إلى المنطقة الضوء مرة أخرى على دور سياسة إيران التدخلية المتزايدة في المنطقة – خصوصًا في ظل انحسار الوجود الأمريكي – في تغيير حسابات السياسة الخارجية للقوى الإقليمية الأخرى، بما فيها المملكة العربية السعودية. وما إذا كانت جهود الرياض التصالحية الحالية ستؤتي ثمارها هو رهنٌ بقدرة القيادة السعودية على تحقيق التوازن بين التناقضات الكامنة والضغوط الجاذبة المركزية والأهداف المختلفة التي تؤثر في هاتين العلاقتين.
ثمن الجرأة: تعديلات دقيقة في السياسة الخارجية السعودية
لطالما تمثلت المبادئ الرئيسية للسياسة الخارجية السعودية في رغبة قوية بالقيادة ونهج حذر تجاه الشؤون الدولية. من ناحية، ترى المملكة العربية السعودية شبه الجزيرة العربية ومحيطها المباشر على أنها منطقة نفوذ طبيعية. وقد أثّر مفهوم النخبة السعودية لدورها الوطني بشكل عميق في عملية صنع السياسة الخارجية للبلاد، شأنه شأن التوقع أن تتوافق الأنظمة الملكية الخليجية الأخرى مع أجندات المملكة السياسية والأمنية. من ناحية أخرى، أدّت طبيعة عملية صنع القرار في السعودية – القائمة على التشاور المنتظم بين الملك وإخوته ومستشاريه المقربين – إلى سياسات خارجية رزينة بشكل عام. وعلى الرغم من بعض الحالات التي اتخذت فيها المملكة موقفًا حازمًا على الساحة الدولية، على غرار أزمة النفط عام 1973، إلا أن هذه اللحظات كانت الاستثناء وليس القاعدة في عملية صنع السياسة الخارجية السعودية.
مع ذلك، مرّت الآليات والديناميكيات التي تحدد مسار السياسة الخارجية السعودية وكيفية عملها بعملية إصلاح كبيرة بعد وصول الملك سلمان بن عبد العزيز إلى العرش في كانون الثاني/يناير 2015 وتسمية ابنه محمد بن سلمان وليًا للعهد في حزيران/يونيو 2017. فقد أدى تغيير المناصب في القيادة السعودية إلى تغيّر المبادئ التي تسترشد بها السياسة الخارجية للمملكة بحيث تحولت إلى موقف المخاطرة. وانتهج ولي العهد أسلوبًا اتصف بطابع شخصي أكبر وبدرجة أكبر من المركزية والحزم لإدارة السياسة الخارجية، وتجلى هذا الأسلوب في المقام الأول باحتواء استباقي للأنشطة الخبيثة التي ترعاها إيران في الشرق الأوسط.
بيد أن هذا التحول أفضى إلى نتائج مختلطة. فمن جهة، يتبين من الاجتماع الذي عقده مجلس التعاون لدول الخليج العربية لإنهاء الخلاف المستمر منذ ثلاث سنوات مع قطر في العلا – وهي جوهرة المواقع الأثرية السعودية – ومن زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الرياض هذا الصيف، أن المملكة لا تزال تتمتع بدور رئيسي في الشؤون الإقليمية والعالمية. من جهة أخرى، شهدت المملكة تناقصًا تدريجيًا في دورها القيادي بين دول مجلس التعاون الخليجي، وبخاصة إزاء الإمارات العربية المتحدة وقطر، ووجدت نفسها معزولة أكثر فأكثر على الصعيد السياسي.
وعلى خلفية تناقص النفوذ السعودي في المنطقة وإدراك القيود المتأصلة في نهج السياسة الخارجية القائم على المواجهة، استأنفت الرياض جزئيًا موقفها التصالحي التقليدي. ويبدو أن الرياض باتت مدركة أنه في ظل البيئة الجيوسياسية الراهنة للانفراج غير المستقر، لا يؤتي الموقف العدائي العلني ثمارًا لأنه يعرّض البلاد لمجموعة كبيرة من التهديدات التي تهدد بتقويض طموحاتها ومصالحها الاستراتيجية. وتعكس محاولات الرياض للتواصل مع تل أبيب وطهران في الوقت نفسه، على الرغم من تناقضها الظاهري، كيف تسعى المملكة إلى مجموعة متعددة الأوجه من الأهداف التي تتطلب التعامل بشكل معقد مع العلاقات الإقليمية.
وتساهم هذه الجهود مجتمعةً في تعزيز المصالح الوطنية السعودية، وهي ضمان أمن النخبة الحاكمة لأجل طويل ودعم رؤية ولي العهد لدولة سعودية جديدة. ولكن عملية التوازن البراغماتية التي تقوم بها السعودية ليست بمنأى عن المخاطر، وقيودها الكامنة تهدد نجاح هذه العملية التكتيكية لتغيير المواقف.
تأجيل المحتّم؟ الوفاق الضمني بين السعودية وإسرائيل يحقق التقدم
تحولت العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل من أمر محرَّم إلى واقع هادئ في غضون أقل من نصف قرن. وقد حققت الروابط السعودية الإسرائيلية قفزات نوعية وكمية كبيرة إلى الأمام خلال السنوات القليلة الماضية، بخاصة خلال إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب. إذ تنظر الرياض وتل أبيب كلتيهما بتوجّس إلى تراجع الرغبة السياسية الأمريكية في صون الوضع الراهن الإقليمي وإلى التهديدات المتزايدة من إيران. ويتوافق هذا التنافر مع التقارب المتزايد بين مصالح هذين الطرفين اللذين يعتبران طهران قوة خطيرة مخلة بالاستقرار في المنطقة.
وفي ما يتعدى إطار التهديد المشترك من إيران، لعب أيضًا تغير الأجيال في قيادة البلاد دورًا حاسمًا في إعادة ضبط البوصلة الأمنية للمملكة مع تولّي أشخاص من جيل الشباب العديد من المناصب العليا في المؤسسات. ومع تزايد التركيز على تطوير فرص جديدة للنمو الاقتصادي واقتصاد ما بعد النفط، ترى القيادة السعودية في إسرائيل شريكًا تجاريًا واعدًا في القطاعات الاستراتيجية مثل القطاعين الرقمي والتكنولوجي. وتمتد هذه الفرص المحتملة إلى مجموعة واسعة من المجالات، بما فيها الطاقة المتجددة وإدارة المياه والزراعة في البيئات ذات الطقس المتطرف.
وفي حين لم تحقَّق إنجازات هامة حتى الآن، إلا أن رحلة الرئيس بايدن الأخيرة إلى الشرق الأوسط ألقت الضوء على بعض التطورات الجديدة. فقد فتحت السعودية مجالها الجوي أمام جميع شركات النقل الجوي، بما في ذلك شركات الطيران الإسرائيلية، فيما أعطت إسرائيل موافقتها على تبادل محتمل بين مصر والسعودية لجزيرتَي تيران وصنافير الاستراتيجيتين. وخلال الاجتماعات الثنائية مع بايدن، أعرب كلٌّ من الإسرائيليين والسعوديين عن التزام قوي بمنع طهران من امتلاك أسلحة نووية.
مع ذلك، لا يزال التطبيع الدبلوماسي الكامل بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل يواجه عقبات كبيرة. فمع أن الملف الفلسطيني والنقاش حول وضع القدس فقدا جزءًا من صداهما العابر للحدود، لا يزالان يشكلان نقطتين مهمتين في أي اتفاق سلام محتمل بين السعودية وإسرائيل. فالرأي العام السعودي لا يزال يولي أهمية كبيرة لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، حيث إن استطلاعًا للرأي أجراه معهد واشنطن في شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس 2022 أفاد أن 76 في المائة من المستطلَعين السعوديين ينظرون بشكل سلبي إلى "اتفاقيات أبراهام." وبما أن الرياض هي المصممة الرئيسية لمبادرة السلام العربية لعام 2002، قد يكون من الصعب عليها تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل إذا لم يحقق اتفاق السلام تغيرات ملموسة للفلسطينيين.
من نسف الجسور إلى إرساء الروابط: تقلبات الخصومة المتجذرة بين السعودية وإيران
شهدت العلاقات بين السعودية وإيران – المتردّية في الأساس بفعل احتكاكات أيديولوجية وطائفية متعددة – تدهورًا متسارعًا خلال السنوات العشرين الماضية. وشملت نقاط التوتر الرئيسية النفوذ الإيراني المتزايد في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وانعدام حس الاستقرار في المنطقة بعد الربيع العربي ومجددًا في عام 2016 بعد أن أقدمت بعض الحشود على اقتحام السفارة السعودية في طهران عقب إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر. بعد هذه الحادثة الأخيرة، حدّ البلدان من علاقاتهما الدبلوماسية، ودخلا في معارك خطابية تحريضية، وأطلقا مرحلة متوترة من المواجهة الباردة التي بلغت ذروتها مع هجماتٍ بالطائرات المسيرة والصواريخ استهدفت منشآت النفط السعودية في بقيق وخريص في منتصف أيلول/سبتمبر 2019. ويشار إلى أن هذه التفجيرات – التي تبنّاها الحوثيون، ولكن المرجح أنها أُطلقت من مواقع في العراق أو إيران – أوقفت مؤقتًا نصف إنتاج النفط السعودي.
وقد شكل هذا الهجوم نقطة تحول. فالضرر الهائل الذي لحق بقطاع النفط السعودي في صميمه، وغياب الرد العسكري الأمريكي على الأراضي الإيرانية، دفعا القيادة في الرياض إلى تبنّي نهج تصالحي تجاه إيران. فأكد ولي عهد أن إيران " إيران دولة جارة، وستبقى جارتنا إلى الأبد، وليس في إمكاننا التخلص منها، وليس في إمكانها التخلص منا. من الأفضل أن نحلّ الأمور مع إيران، وأن نبحث عن سُبل لنتمكن من التعايش."
في هذا السياق، وفّرت الحوارات الضمنية المتعاقبة التي عقدت في بغداد منفذًا لمحاولات المصالحة هذه. وبوساطة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، عقدت السعودية وإيران بنجاح خمس جولات من المحادثات بين نيسان/أبريل 2021 ونيسان/أبريل 2022، حيث تطرقت الاجتماعات إلى مجموعة من القضايا، من ضمنها المسارات المحتملة لإنهاء الحرب اليمنية، والخطوات التدريجية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية الكاملة، وخيارات الحد من انعدام الأمن البحري في المياه الواقعة قبالة شبه الجزيرة العربية.
وصحيح أنه من المستبعد أن تحقق هذه الحوارات إنجازات كبيرة على المدى القصير، إلا أنها تدل على نية متبادلة للتغلب على خطوط الصدع الآنية والتركيز على التخفيف من حدة التوتر وتوسيع مجالات التعاون في الوقت نفسه. ولكن معظم هواجس المملكة الأمنية العميقة بشأن الطموحات الإيرانية بقيت من دون حلّ. ومن شأن هذه المخاوف غير المحسومة – من دعم إيران لوكلائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى برامجها الصاروخية والنووية – أن تعطّل التقارب السعودي الإيراني. وفي حين كان هدف السعودية المحدد من تواصلها مع الإيرانيين هو لجم الحرب الحوثية غير المتكافئة التي تستهدف الأراضي السعودية بهجمات الطائرات بدون طيار والصواريخ، إلا أن مدى نفوذ طهران الفعلي على الجماعة اليمنية المتمردة هو موضع جدل. فقد يتبين أن قدرة طهران على مساعدة السعودية في مساعيها للحد من التهديدات المختلطة من المستنقع اليمني محدودة.
وبالنسبة للمملكة، فإن إبقاء خياراتها مفتوحة يعني اتباع استراتيجية مزدوجة للسياسة الخارجية تهدف إلى الحفاظ على زخم محادثات بغداد وفي الوقت نفسه تكوين مجموعة متنوعة من العلاقات مع الشركاء الذين يملكون الوسائل والإرادة السياسية اللازمة للإقدام على خطوة تحقق توازن القوى ضد التهديد الإيراني.
آفاق المستقبل
يعتمد المسار الذي ستسلكه السياسة الخارجية السعودية جزئيًا على مستقبل بعض الملفات الإقليمية الحرجة التي لا تملك الرياض سوى سلطة محدودة عليها. ففي منتصف حزيران/يوليو 2022، أشارت السعودية وإيران إلى نيتهما بمتابعة محادثات بغداد. غير أن الاشتباكات الأخيرة التي عاثت فسادًا في المنطقة الخضراء بالعاصمة العراقية تلقي بظلال كثيفة على إمكانية استئناف المحادثات التي يتوسط فيها رئيس الوزراء الكاظمي. ويعتمد استئناف بغداد لدورها كصلة وصل دبلوماسية على قدرة الجهات الفاعلة العراقية على منع تحول المواجهة السياسية إلى مواجهة مسلحة تهدد بانهيار البلد بأكمله في حرب أهلية مفتوحة للجميع. يجب على السعودية وإيران الامتناع عن دعم التدافع السياسي الخطير بين مختلف الفصائل المتنافسة، والاستفادة بدلاً من ذلك من نفوذهما لحث محاوريهما المحليين على السعي إلى حلول شاملة.
في ما يتعلق بإسرائيل، وعلى الرغم من أن تل أبيب تبدو المرشح المثالي للمشاركة في احتواء أنشطة إيران الخبيثة بفضل تحوطها العسكري النوعي ومهاراتها الحربية المثبتة، تواجه الرياض وتل أبيب طهران لأسباب مختلفة. فالمملكة تسعى إلى كسب نفوذ ضد خصمٍ لها في المنافسة على قيادة المنطقة، في حين ترى إسرائيل تهديدًا وجوديًا لأمنها القومي. ومن الممكن أن ينجح السعوديون والإسرائيليون في وضع معظم خلافاتهم جانبًا، إلا أن نطاق التعاون في المجال الأمني لا يزال محدودًا.
في كلتا الحالتين، تحاول المملكة العربية السعودية التوفيق بين متناقضين. وقد نجحت للوقت الراهن في الحفاظ على هذه المواقف المتضاربة وتحقيق أهداف مهمة، وهي كسر الجليد بشكل متزايد مع إسرائيل والحد من التصعيد مع إيران بشكل خجول. ولكن إذا أصبحت التناقضات الكامنة في السياسة الخارجية السعودية أكثر حدةً تحت ضغط العوامل الداخلية والخارجية، قد تواجه الرياض صعوبة في الحفاظ على التوازن الذي تحاول تحقيقه.
مع ذلك، على مر التاريخ، حققت المملكة العربية السعودية عندما عملت كقوة استقرار في المنطقة إنجازات أكثر مما حققته كقوة تحدي. لذلك، فإن احتمالات أن تتمكن الرياض من اكتساب نفوذ سياسي في الديناميكيات الإقليمية ستكون أعلى من خلال بلورة علاقات عمل ودية مع كل من تل أبيب وطهران بدلًا من اتباع سياستها المتشددة والتدخلية السابقة. إلا أن نجاح هذا النهج قد يؤدي في نهاية المطاف إلى وضع يتعين فيه على المملكة اختيار أحد الجانبين. ويعتمد ما إذا كانت المملكة ستعطي الأولوية لعلاقاتها مع إسرائيل على حساب إيران، أو العكس، على نظرة القيادة السعودية إلى التهديدات الموجودة في محيطها، والأدوات التي ستستخدمها – المواجهة أو الاسترضاء – لتحقيق التوازن ضدها.