سالم سيف - جاكوبين ماجازين-
«هي أول مدينة رأسمالية في العالم.. سوف يتم طرح نيوم في الأسواق.. يشبه الأمر كما لو كنت تطرح مدينة نيويورك».
هذه هي الطريقة التي وصف بها ولي العهد السعودي، الأمير «محمد بن سلمان»، مدينة «نيوم»، وهي عبارة عن مدينة جديدة تتكلف 500 مليار دولار، من المفترض أن تمتد إلى عشرة آلاف ميل مربع، في المنطقة الصحراوية بين مصر والأردن، وتغطي مساحة بحجم ولاية ماساتشوستس، في واحدة من أجمل ولكن أقل المناطق سكانا في العالم، وتستهدف المدينة العملاقة الغنية بالطاقة الشمسية الاعتماد على السيارات ذاتية القيادة والروبوتات الحديثة في الكثير من أعمالها.
وقد تم الإعلان عن ذلك خلال مبادرة الاستثمار في المستقبل، وهو اجتماع عقد في العاصمة السعودية الرياض أطلق عليه اسم «دافوس الصحراء»، وقد جمع بين الكثير من أصحاب رأس المال، مع حضور أكثر من 3000 من قادة عالم الأعمال، الذين يتحكمون معا في أكثر من 20 تريليون دولار.
وكان وزير الخزانة الأمريكي «ستيفن منوشين»، وسلفه «لارى سامرس»، ومؤسس بلاك روك «لارى فينك»، ومؤسس بلاكستون «ستيفن شوارزمان»، ورئيسة صندوق النقد الدولي «كريستين لاجارد»، من بين الحاضرين.
وتعد «نيوم» واحدة من العديد من المشاريع التي استحوذت على العناوين الرئيسية، من بين المشاريع التي تم الإعلان عنها كجزء من «رؤية 2030» السعودية.
وتهدف هذه الخطة رفيعة المستوى، التي صممتها شركات الاستشارات «ماكينزي»، و«بي سي جي»، إلى تقليل اعتماد المملكة العربية السعودية على النفط، وتحويلها إلى مركز سياحي ولوجستي ومالي.
ومن المشاريع الأخرى التي تستحوذ على العناوين الرئيسية، منتجع فاخر تبلغ مساحته 20 ألف ميل مربع على البحر الأحمر، وأبرزها خصخصة شركة أرامكو، أكبر منتج للنفط في العالم، التي تمول الحكومة السعودية وكل شيء آخر في المملكة.
وقد تكون فرص نجاح إنشاء «نيوم» المتصورة ضئيلة فعلا، إن لم تكن مستحيلة تماما، ولا تملك الشركات التي تتخذ من الخليج مقرا لها قدرة متقدمة في عملية الإنتاج.
وفي الواقع، لا يمكن لأي شركة خاصة في المنطقة إنتاج كميات كبيرة من السيارات بمفردها، ناهيك عن إنتاج وإعادة إنتاج مدينة مبنية على الروبوتات والمركبات ذاتية القيادة.
وبالتالي، للوصول إلى مثل هذه المدينة فائقة التكنولوجيا، ستكون المدينة بحاجة لاستيراد كل التكنولوجيا اللازمة للبناء والتشغيل، ويبدو هذا مشروعا مكلفا من شأنه أن يأكل جزءا كبيرا من عائدات صادرات النفط في البلاد، في مقابل عوائد غير واضحة.
يتساءل المرء عما إذا كانت هذه هي الاستراتيجية المثلى لحكومة يفترض أنها تقلل من اعتمادها على عائدات النفط.
وعلى الرغم من الصعاب الواضحة، فإن فكرة مدينة رأسمالية بالكامل تعتمد على استخدام أحدث التقنيات الروبوتية، سلبت لب الكثير من الحضور في المؤتمر، وكانت الفكرة كالموسيقى في أذني «ريتشارد برانسون»، الذي أعلن بعد وقت قصير من إعلان أحدث مشاريع المملكة، أن الدولة السعودية تستثمر مليار دولار في شركته «فيرجن».
المدن البترولية الحديثة
في بداية الثورة البترولية في الخليج، كانت معظم العائدات النفطية تذهب إلى الحاكم وأسرته، وكان الشيخ «عبدالله السالم»، زعيم الكويت من 1950 إلى 1965، أول من عدل هذه الصيغة، وبدلا من إعطاء معظم عائدات النفط لأفراد الأسرة، تم توزيع جزء كبير على المواطنين، من خلال الأجور وتوفير خدمات اجتماعية شاملة ومجانية، مثل التعليم والصحة.
وأخيرا، تم إنفاق جزء كبير على البنى التحتية، وسارعت الكويت في ضخ المليارات في بناء المدن الحديثة التي تضم الملايين من السكان، واحتلت هذه المراكز الحضرية الجديدة مكان المدن التاريخية، التي كانت تضم في السابق أكثر من 50 ألف نسمة داخل أسوارها.
وقد أطلقت الكويت خطتها التنموية في أوائل الخمسينات، وهدمت المدينة التاريخية بأكملها، وفي مكانها تم تصميم ما سيصبح واحدا من الأمثلة الأكثر شهرة من للمدن عالية الحداثة، ليس فقط في الخليج، ولكن في العالم.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، تحولت الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى المخططين والمهندسين والعلماء لحل المشاكل الاجتماعية والتنموية، معتقدين أن وجهة النظر التكنوقراطية قد تصمم المجتمع بشكل أفضل، وامتدت قاعدة الخبراء هذه لتشمل جميع جوانب الحياة، الاقتصاد والمدرسة والمنزل، وبالطبع المشهد الحضري.
وسرعان ما اتبعت دول الخليج الأخرى نموذج الكويت، وفي الستينات من القرن العشرين، قام المهندس المعماري المصري، «عبدالرحمن حسين مخلوف»، بوضع خطط رئيسية للمدن السعودية في جدة والمدينة المنورة ومكة المكرمة، وكذلك في العاصمة الإماراتية أبوظبي.
وقام المهندس المعماري اليوناني الشهير، «كونستانتينوس أبوستولوس دوكسياديس»، الذي صمم أيضا مدينة إسلام آباد في باكستان، بإنشاء المخطط الرئيسي للرياض عام 1969، وقد اختلفت هذه المدن في تفاصيلها، ولكنها اعتمدت جميعها على مبادئ حداثة عالية.
وساعدت برامج الإسكان الحكومية الأسر على بناء مساكن خاصة كبيرة، حيث بلغ حجم المنازل في الكويت سبع مرات حجمها في الولايات المتحدة، وأصبحت كل أسرة قادرة على الحصول على سيارة خاصة وقد أتاحت «حرية التنقل» التي وفرتها هذه السيارات للسكان قطع مسافات في بضع دقائق، بدلا من الرحلات التي كان من شأنها أن تستغرق عدة أيام سيرا على الأقدام، الأمر الذي قاد إلى التوسع الأفقي للمدن.
وفي المقابل، أصبح النقل العام غير موجود تقريبا، وقد سادت الطرق السريعة ومواقف السيارات والفيلات وناطحات السحاب المشهد الحضري، ما ضمن مستويات عالية من الاستهلاك يمكن تداول البترودولار خلالها محليا.
وأصبحت مدن الخليج الأعلى في استهلاك الفرد في العالم من المياه والكهرباء والبنزين، وحتى مستحضرات التجميل، وزاد استهلاك الكويت الكلي للمياه بمعدل 12 ألف مرة، في الفترة ما بين عامي 1939 و1985، حيث بلغ نصيب الفرد من الاستهلاك أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه في المملكة المتحدة.
وهكذا، أصبحت التكنولوجيا الحديثة ضرورية لتلبية الاحتياجات الأساسية، مثل المياه والغذاء والطاقة والحركة، وقد تم جلب التكنوقراط من جميع أنحاء العالم، للحصول على أحدث العلوم والتكنولوجيا في ذلك الوقت، وتم بناء العديد من محطات تحلية المياه ومحطات توليد الكهرباء، فضلا عن الموانئ والمطارات اللازمة للحفاظ على هذه المدن.
وكان النفط حاسما باعتباره لبنة البناء والتشغيل الأساسية لهذه المدن، فضلا عن تغذية الحياة اليومية للمواطنين، ليصبح شريان الحياة للمراكز الحضرية، بطريقة لا مثيل لها في أماكن أخرى من العالم.
المدن الدولية
وفرت النسخة الأولى من هذه المدن البترولية الحديثة مساكن ودولة رفاهية قوية للمواطنين، في حين تم إنفاق رأس المال المتراكم على البناء واستثمارات البنية التحتية.
وقد قامت دول الخليج ببناء المنازل والمدارس والمستشفيات والمطارات والموانئ والجامعات على نطاق واسع، ولكن مع انخفاض أسعار النفط خلال الثمانينات والتسعينات، توقف جزء كبير من هذا البناء.
غير أن فجر القرن الجديد حقق طفرة جديدة في أسعار النفط، ودخل أكثر من تريليوني دولار من النفط في خزائن دول الخليج بين عامي 2000 و2015. وحان الوقت لطفرة بناء أخرى.
ولكن لا الدولة ولا القطاع الخاص وجدوا النموذج السابق لمدن الرعاية الاجتماعية جذابا، وبدلا من التركيز على الإسكان والبنية التحتية الاجتماعية للسكان المحليين، تحركوا نحو بناء مدن «عالمية» تخدم الطبقة الوسطى من الداخل والخارج، وتم إصدار قوانين تسمح للمستثمرين من أي مكان في العالم بشراء العقارات، مقابل تأشيرات إقامة طويلة الأجل، وكانت الرؤية تهدف لبناء مدن دولية للمستثمرين والمستهلكين الأغنياء من جميع أنحاء العالم.
وفي ذروة هذا الازدهار عام 2008، كان 57% من قيمة جميع المشاريع المعلنة في دول الخليج، 1.2 تريليون دولار من أصل 2.1 تريليون دولار، موجهة إلى هذه المشاريع العقارية الضخمة.
قادت دبي الطريق، مع بناء مئات الآلاف من الوحدات السكنية الجديدة المخصصة للمبيعات الدولية، وفي عام 2008، أظهرت تقديرات متحفظة للغاية خطط لبناء أكثر من 1.3 مليون وحدة مخصصة للملكية الدولية في الإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر وعمان وحدها، وبفضل القدرة على استيعاب أكثر من 4.3 مليون شخص، ووعدت هذه المشاريع بإيواء المزيد من المغتربين من إجمالي عدد مواطني هذه البلدان.
وقد اقترنت هذه المشاريع العقارية بمشاريع طموحة تهدف إلى الترويج لـ «العلامة التجارية العالمية» الخليجية، في الثقافة والرياضة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك المتاحف مثل متحف اللوفر في أبوظبي، والملاعب والبنية التحتية الرياضية الخاصة بتنظيم كأس العالم 2022 في قطر.
وكان الهدف من كل هذه المشاريع جعل تلك البلدان مراكز مالية ولوجستية عالمية، على خطى دبي، وينعكس ذلك من خلال شركات الاستشارات الإدارية التي تم جلبها للعمل على الرؤى الاقتصادية لهذه البلدان، والتي أعادت تدوير أفكار مماثلة في جميع دول الخليج.
لكن هذه المجموعة المذهلة من أنشطة البناء لم تكن كافية، وبدأت العواصم الخليجية في التوسع خارج حدودها، ومولت مشاريع البناء الكبرى في جميع أنحاء العالم العربي، بما في ذلك بناء عاصمة جديدة في مصر، ومدينة الطاقة في ليبيا، والمشاريع الكبرى في لبنان والأردن وفلسطين، وحتى الهند.
ويعيدنا هذا كله إلى «نيوم»، التي تعد بمدينة جديدة في المملكة على غرار مستعمرات «الروبوتات» في فيلم الخيال العلمي «بليد رانر» أو عداء الشفرة، وكأول «مدينة رأسمالية»، من المفترض أن يتم تصميمها وتأسيسها من قبل شركة قابضة، ثم يتم طرحها للبيع في أسواق الأسهم، وسوف يكون المستثمرون قادرين على شراء أجزاء من «نيوم»، تماما مثل الأسهم في أي شركة أخرى.
مدينة رأسمالية
وقد قيل الكثير عن تسليع المدينة، وهي عملية تصبح المدينة بذاتها سلعة، وبالتالي يتم استغلالها بصورة منهجية لغرض أساسي هو تحقيق الربح، ويتم تخفيض السكان والسياح على حد سواء إلى مجرد إضافات في المشهد الحضري الكبير، الأمر الذي يهدف إلى تحقيق أقصى قدر من الدخل.
وتأخذنا مشاريع مثل «نيوم» إلى أبعد من هذا المنطق بخطوة، وهنا، ستقوم المؤسسات المالية على تصور وتصميم وتنفيذ مدينة جديدة تماما كمشروع خاص، ثم إدراجه في البورصة، وهذا يمثل الرؤية النهائية لإضفاء الطابع الرأسمالي على المدينة، وهي عملية يتم من خلالها تصميم المدينة نفسها على نحو محدد ومنهجي بهدف وحيد وواضح، هو تحقيق الأرباح.
وبموجب هذا النموذج، يعزز المصدر المالي القائم على التنفيذ علاقاته بالشخصيات السياسية المؤثرة، التي عادة ما تكون أعضاء في الأسرة الحاكمة، للحصول على الأراضي بأسعار رخيصة بشكل لا يصدق، وفي المقابل، يضخ الممول الأموال اللازمة لتنفيذ المشروع.
واستنادا إلى هذا المخطط، تم التخطيط للعشرات من المدن الكبرى الخاصة، في جميع أنحاء الخليج، في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع مفاهيم تتراوح بين «المدن الإعلامية» و «الجزر الشاطئية الفاخرة» إلى «الموانئ الرأسمالية».
لذلك، في حين كانت المدن البترولية الحديثة ذات قيمة لتوفيرها السكن الاجتماعي ودولة الرفاه لمواطني الخليج، فإن قيمة استخدام هذه المدن الجديدة كانت ببساطة من خلال قدرتها على توليد الأرباح، وكلما كانت هذه المشاريع أكثر تكلفة، وأكثر طموحا، زادت المكاسب المالية، فالمدينة هي الربح، وكل شيء آخر يعتبر ثانويا، فهي «مدينة رأسمالية نقية».
ولكن في أعقاب الأزمة المالية الأخيرة، أصبحت العديد من هذه المشاريع الضخمة مدنا للأشباح، وفي دول الخليج ترى في الأفق مباني نصف مكتملة يتجمع عليها الغبار، ومثال على ذلك حي الملك «عبدالله» المالي في الرياض، الذي انضم إلى قائمة طويلة من المشاريع التي لم تنته أو المدن التي تخلت عنها الحكومات في أنحاء الخليج، بما في ذلك مشروع الواجهة البحرية المعلق حاليا في دبي، وهو تطوير يبلغ ثلاثة أضعاف حجم واشنطن العاصمة، ويهدف إلى استيعاب ما يصل إلى 1.3 مليون نسمة.
وتشمل الإخفاقات البارزة الأخرى مدينة بلو في عمان، التي صممت لمئتي ألف نسمة، والأكثر شهرة في دبي، وهي مدينة العالم، وهي مجموعة من الجزر الصناعية، تبدو كأنها خريطة العالم، حيث تغرق الآن في البحر.
كارثة بيئية
وقد كان للنطاق الواسع لهذه المشاريع أثر كارثي على البيئة في الخليج، مضاعفا آثار ما يسمى بعصر «الأنثروبوسين» الجيولوجي، وقد خصصت شركات التطوير آلاف الأميال من الأراضي الصحراوية للبناء، واقتطعت أجزاء من الأراضي بمحاذاة البحر، لبناء مساحات شاسعة من الشواطئ.
وقد انهارت النظم البيئية الصحراوية والبحرية الحساسة، التي وجدت لملايين السنين، حيث قام البناؤون بتحويل أجزاء كبيرة منها إلى مساحات عشبية للغولف، وحتى منتجعات للتزلج على الجليد، حيث كان هذا هو أسلوب الحياة والاستهلاك في «المدن العالمية».
ولا تزال المئات من محطات تحلية المياه تدخل نطاق العمل في الخليج لتلبية الطلب المتزايد على المياه، في منطقة لا يوجد فيها نهر واحد، وقد سمح النفط بشكل سطحي بترويض البيئة، ولا يزال التوسع في البناء والاستهلاك في المشهد الحضري مستمرا بلا هوادة، دون إيلاء اعتبار كبير للاستدامة الإيكولوجية.
ومع ذلك، فإن لدى البيئة وسائلها للرد، وتصنف 5 مدن في الخليج حاليا ضمن أكثر 20 مدينة ملوثة في العالم، ويشعر العلماء بالقلق من أن المنطقة أصبحت في مقدمة خط مواجهة الاحترار العالمي، محذرين من أن درجات الحرارة قد تصل قريبا إلى مستويات تصبح معها الحياة البشرية مستحيلة، وأصبحت مياه الخليج من أكثر المناطق تلوثا، وقد تم تفريغ خزانات المياه العذبة الضئيلة، التي استغرقت ملايين السنين لتكونها، في غضون بضعة عقود تقريبا.
وبالمعدل الحالي، يبدو أن السؤال الرئيسي ليس ما إذا كانت مدن الخليج سوف تقود الطريق لتخطيط المدن المستقبلية، ولكن ما إذا كانت الحياة الحضرية في المستقبل ستبقى قابلة للحياة في المنطقة على الإطلاق في عصر ما بعد النفط.
لكن لماذا تواصل حكومات الخليج باستمرار خططها لبناء المدن في وسط الصحراء، حتى بعد هذه الكوارث المالية والبيئية الهائلة؟ لماذا الإصرار على بناء المدن الكبرى تماما من الصفر في كل مرة، بدلا من التركيز على تطوير ورفع مستوى المدن الموجودة بالفعل، حيث يعيش معظم المواطنين، والتي تعاني من انقطاع التيار الكهربائي، والطرق المزدحمة، والسيول الدائمة؟ ناهيك عن طرق السيارات غير المناسبة، والتي تسبب الآلاف من وفيات المرور سنويا، وهو أعلى معدل في العالم.
الجواب، باختصار، هو رأس المال، وبصرف النظر عن النفط، تفتقر المنطقة إلى الدوائر الإنتاجية الأولية، ونتيجة لذلك، ذهبت الكثير من الأموال التي تجمعها الدولة من تصدير النفط مباشرة في البناء.
وقد تركزت عمليات البناء وتجارة الواردات والخدمات المرتبطة بها بشكل خاص في أيدي التكتلات المملوكة لأسر محددة، والتي اقتصرت خبرتها في مجال الأعمال أساسا على هذه القطاعات منذ أول ازدهار نفطي في الخمسينات.
وواصلت دول الخليج الإعلان عن هذه المشاريع الضخمة، حيث يكون ملاك الأراضي ومطوري العقارات وشركات البناء، إلى جانب مجموعة من الممولين وشركات الاستشارات الإدارية، أكبر المستفيدين.
وتكون هذه الكتلة أيضا هي المجموعة الأكثر تأثيرا سياسيا واقتصاديا في المنطقة، بما في ذلك العديد من أفراد الأسرة الحاكمة، وبما أن معظم خبراتهم في الإنتاج الاقتصادي اقتصرت على بناء المدن والأنشطة المرتبطة بها، فلا عجب أن يواصلوا إعطاء الأولوية لهذه المشاريع في كل خطة اقتصادية تقودها الدولة، حتى عندما تكون مكلفة وكارثية، مرارا وتكرارا.
وكان يجب على الشعوب مواجهة عواقب هذا التوسع الحضري غير المعهود، فأولئك الذين يسكنون الأرض فعلا، ليس لديهم أي رأي في هذه المسألة، كما أن لا أولئك الذين يعيشون في المدن الحضرية الحالية، ولا القبائل التي تم تشريدها قسرا وإعادة توطينها بسبب مشاريع مثل «نيوم»، لديهم فرصة كبيرة للتأثير على قرارات الحكومات.
وفي الواقع، يحظر على الكثيرين منهم الدخول إلى المدن الجديدة، التي تميل إلى أن تكون مجتمعات محاطة بالأسوار تخدم الأثرياء من الأجانب والسكان المحليين، ويرجع صنع القرار إلى نخبة اقتصادية وسياسية، تخدم فقط رأس المال الدولي.
ومما لا يثير الدهشة أن الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تتبن هذا الاتجاه بشكل كامل هي دولة الكويت شبه الديمقراطية، وبغض النظر عن الأعمال التجارية الكبيرة، فإن برلمانها المنتخب قد عمد باستمرار إلى منع هذه المشاريع، حيث رأى أنه لا يستفيد منها الغالبية العظمى من المواطنين.
وبالنسبة لبقية دول الخليج، فإن الأمر لا يتجاوز كونه شاغلا ثانويا إذا ما فشلت هذه المدن في نهاية المطاف أو دمرت البيئة أو كلفت الحكومة مليارات الدولارات.
وسيستمر هذا المنوال، على الأقل حتى نفاد أموال النفط، أو حتى لا تعود هذه المدن قادرة على استيراد التكنولوجيا لإنتاج المياه الخاصة بها، ناهيك عن «الروبوتات» اللازمة لتشغيلها.