(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
لم يجد أي دين سماوي، أو حتى عقيدة وضعيّة، سببًا للعن الغباء؛ لأنّ الله العليّ القدير لم يخلق بالأصل إنسانًا مكلفًا غبيًا. صحيح أن درجات الذكاء تتفاوت بين بني البشر، مثلها مثل كل نعمة وملكة أخرى وهبها الله، إلا أن الأديان كلها حثت أتباعها على ضرورة التفكّر والتدّبر، في التوراة والإنجيل والقرآن. والأنبياء تركوا ما لا يحصر في هذا الباب بالذات، إذ خاطب المسيح عيسى بن مريم حوارييه قائلًا: "أَلَكُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُونَ، وَلَكُمْ آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَذْكُرُونَ"، كما تكرّر المعنى في الخطاب القرآني :{ "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"}.
الخطاب الإلهي واضح الدلالة والمغزى والمفهوم، في كل رسالة، وهو يجمع بين إدانة الشخص المتغابي ويعده بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة على السواء، وبين نداء استنهاض العقل وتنوير الروح، عبر التنفير من اختيار الإنسان العاقل المكلّف، بنفسه ولنفسه، أن يغمض عيونه ويوقف فكره وأن يغيب ضميره، وأن يرى الإشارات تكاد من فرط الوضوح تتكلم وتشرح بلسان مبين، ثم يختار بغباء أن يشارك بالصمت في ما يراه كله، وهي جريمة بالنسبة إلى الجماعة والإنسان.
أول طرح لفكرة عنوانها "نيوم" كان الإعلان الرسمي لوليّ العهد السعودي، في تشرين الأول/ أكتوبر العام 2017، حين قدّم مشروع "مدينة نيوم" "NEOM"، على مساحة هائلة تقدر بـ 26.5 ألف كيلو متر مربع، وتقع على الساحل الشمالي الغربي للمملكة، أي على ضفاف خليج العقبة نزولًا إلى البحر الأحمر، وتمتدّ لنحو 468 كيلو مترًا على الساحل. وهكذا يكون المشروع المعلن "رابطًا وطريقًأ مفتوحًأ" بين أربع دول في خليج العقبة الرابط بين المملكة والأردن والكيان الإسرائيلي ومصر.
حمل اسم المشروع، كما ذكر في التقارير وقتذاك مقطعين من لغتين، "NEO" باللغة الإغريقية واللاتينية تعني "جديد"، و"M" تعني مستقبل بالعربية، وتحمل الحرف الأول من مؤسس المشروع ورئيس مجلس إدارته وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وفي الحقيقة قد لا يكون فارقًا في كثير أو قليل في اختلاف المقصود، إذا ما كان العمل وطنيًا يستهدف المصلحة العليا للمملكة وسيرًا نحو مستقبلها الجديد الذي وصفت "نيوم" بحلمه القابل للتحقق فورًا، بدفع من ثقة إنفاق ورصد تكلفة تقديرية رهيبة بحجم استثمارات قدره 500 مليار دولار.
ليس من بين التكاليف المقدرة أو الاستثمارات المعلنة ثمن شراء الباب الصغير لخليج العقبة من الجنرال السيسي في مصر، عبر قبوله بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة، في العام 2016 وقبل الإعلان عن "نيوم"، وهو ما يعرفه أي شخص عاقل يعيش في العالم العربي أنه "صفقة بيع وشراء" تمت وفقًا لما قالته صحف وقنوات بـ 25 مليار دولار، دفعت على شكل مساعدات أو قروض إلى خزائن الجنرال المنهك، ولم يكن بالأصل ممكنًا تصوّر المشروع لو أن أي دولة أخرى تملك السيادة وحدها على مضيق تيران، اليوم هو مضيق دولي مفتوح للجميع.
لكنّ الغباء لم يكن في الفكرة وحدها، أو الرهان على قدرة الأموال على صناعة أي شيء في أي وقت وضد إرادة أي طرف، ولا في كون مفهوم الاستثمار أصلًا يتطلّب "عوائد مجزية"، وهي في حال "نيوم" مجرد ظنون وأوهام، ولا في قرب المدينة الشديد من برميل البارود المشتعل في المنطقة بداخل فلسطين وحولها، ولا لأنّ المملكة تقليديًا هي عدو لكيان الاحتلال، فليس من المناسب أن نضع مشروعنا هناك بعيدًا تحت أقدمهم وتطاله أيديهم وقتما شاؤوا، ليس في انحراف تخطيط قد يقبل أن يخطئ، بل في تخطيط منحرف لمستقبل المملكة كما يجب أن يكون.
اليوم، وعقب عملية "طوفان الأقصى" وتداعياتها على المنطقة العربية كلها، وما حملته من تهديدات- أو بالأحرى نسفًا- للتوقعات الاعتيادية، فإنّ الباب الكبير للبحر الأحمر –مضيق باب المندب- صار محلًا للصراع بين اليمن وبين الولايات المتحدة، والمعارك البحرية نشبت قبل أن يكتمل تشكيل ما وصفته واشنطن بـــــ"حارس الازدهار"! وشركات الشحن العالمية الكبرى كلها تقريبًا قد غيّرت من خطوط ملاحتها إلى الطريق القديم رأس الرجاء الصالح، وكما يحمل هذا التطور ضربة كبرى لمصر، فإنه كذلك أزال آخر أوراق التوت عن أي فائدة ترجى من "نيوم"، إذا كان المشروع الذي هو بالأصل مدينة عالمية قائمة على التواصل؛ فقد أصبح بابها مغلقًا، فكيف ستقوم أو ستنمو أو ستسمر؟!
ليلًا ونهارًا؛ تخرج علينا التقارير المترجمة برداءة عن الإنجليزية عن كلمة مستدام لاحقة بأي قطاع ضمن مدينة "نيوم" الطاقة المستدامة والتنمية المستدامة والتواصل المستدام، وغيرها.. وهي، كما كل ما هو مرتبط بهذا المشروع، كلمة لا تنتمي لنا بالأصل، حتى لو تُرجمت ونُشرت ورُددت مرارًا وتكرارًا، هي مفردة غريبة لمستقبل يراد له أن يكون هجينًا بلا أصل، وهدرًا بغير انقطاع، وعجزًا كبئر بلا قاع وضياعًا كقارب صغير في بحر ليست له شطآن على الإطلاق.