جاسر الحربش- الجزيرة السعودية-
هل من الصعب أن يكون المثقف تقدمياً حسب اشتراطات العلم والتجديد الفكري والاجتماعي، وفي نفس الوقت محافظاً على الاشتراطات الأخلاقية المنظِّمة للعلاقات الجنسية والأسرية والتماسك الاجتماعي المتوارثة؟. لا أعتقد بالاستحالة ولا الصعوبة، فحياة كل إنسان ناجح، العملية والاجتماعية والفكرية تبقى داخل الإطار المنظم داخل العلاقات المذكورة، وما خرج عن ذلك يكون مؤقتاً وزائلاً وغير مذكور بالخير.
من هذا المنطلق سوف أقول هنا رأيي فيما عُرض حتى الآن من حلقات العاصوف، وأتحمل ما قد يترتب على ذلك من انزعاج وإزعاج بدون ترحم على فترة العاصوف الصحوي، فهي في نظري لا تستحق سوى التعوذ بالله من فساطيطها وتصانيفها وجهاماتها، وأيضاًً بدون ثناء على مسلسل العاصوف التلفزيوني فهو كذلك لا يستحق سوى الاستعانة بالله على الافتراء اللا أخلاقي بحق فترة تسامحية من حياة المجتمع السعودي كانت فاضلة بالفطرة المتوارثة.
ربما كانت نية المسلسل نصاً وإخراجاً تقديم تلك الفترة بصفتها بسيطة تسامحية، لكنه قدمها للأسف متساهلة ومرتخية مع نواظم الأعراف الأخلاقية التي قامت عليها الحياة المترابطة منذ عصور ما قبل الشرائع والأديان.
حقبة ما قبل عاصوف الصحوة كانت حسب الذاكرة التي عايشتها بالكامل فترة تسامحية ضد التزمت التسلطي في مظاهر العبادات وليس في ثوابتها، ومحافظة أخلاقياً فيما يخص اشتراطات الشرف والسمعة الشخصية والعائلية. على عكس ذلك كانت الفترة التي تلتها، أي فترة العاصوف الصحوية فترة تزمتية إقصائية في حرصها على التمظهرات العبادية الطقوسية، لكنها لم تقدم نماذج أخلاقية واجتماعية يُقتدى بها وصالحة للتعايش والتناغم الاجتماعي.
في فترة ما قبل عاصوف الصحوة كان المواطن في هذه البلاد الكريمة هو القيِّم على نفسه أخلاقياً داخل المجتمع المتشابه المتماسك، ثم وفي فترة عاصوف الصحوة أصبح القيِّمون على الأخلاق خلطة بلا مؤهلات سلوكية موثقة، وأكثرهم من طالبي التربُّح بالتجارة والشعبوية الكاريزماتية والتحزب السياسي، ودون اهتمام إصلاحي بالحياة الاجتماعية في تطبيقاتها الحيوية من ظواهر الفساد المالي والإداري والعلاقات البينية والتعاملات الربوية في المؤسسات البنكية والمصرفية. كان دورها في الرقابة الأخلاقية تسلطياً مختلطاً باحتمالات الابتزاز أحياناً، وبالقدرة على التأديب الجارح بما وصل في بعض الحالات إلى القتل بمأمن من العقوبات الشرعية.
بناءً على ذلك أعتقد أن هذا المسلسل التلفزيوني الطويل الممطوط تجارياً أكثر من اللازم بطريقة حشو اللبادات في فراغات غانية عجفاء لا يستشهد بذاكرة من عاصروا حياة ما قبل الصحوة. حتى الآن قدم المسلسل للمشاهد عن المجتمع آنذاك صورة بذاكرة شهود مفصومين عن المجتمع الكبير، أو على الأقل بذاكرة شاهد ما شافش حاجة.
بصرف النظر عن النوايا وهي حسنة -إن شاء الله- وقع المسلسل في سقطات مرَّغت سمعة المجتمع -آنذاك- بالوحل وصوَّرته متحللاً من مكارم الأخلاق.
السقطة الأولى هي افتتاح الموقف الدرامي بالعثور على لقيط، فمسألة العثور على لقيط في تلك الفترة من الزمن كانت من أفظع وأندر الحوادث وتستمر إن حصلت حديث المجالس لفترة طويلة. الواقع أن الزيادة في أعداد الأطفال والأجنة المتروكة في الشوارع ومداخل المساجد لم تصبح لافتة إلا بعد الطفرة المادية الكبرى ودمج العمالة الأجنبية داخل البيوت. المؤكد أن تحول تلك الحوادث إلى شبه مألوفة لم يبدأ في مجتمع ما قبل عاصوف الصحوة، بل بدأ بين تلافيف وضبابيات أجواء الطفرة المالية، أي في وسط وقلب مرحلة العاصوف. ذلك العصف الملتبس بالأجواء السياسية المقلقة -آنذاك- لم يكن حركة تربوية أخلاقية وإنما خلطة متفجرة من السياسة والتجارة والتسلق الاجتماعي.