عبدالله الجميلي- المدينة السعودية-
يبدو أن قَدر مجتمعنا الطّيّب بعد عام 1979م أن يكون دائماً تحت (العَاصُوف الفكري) الذي لا يهدأ؛ فحَادثة محاولة الاستيلاء على الحرم المكي الشريف التي قام بها جهيمان وشـرذمته الفاسدة كانت زلزالاً لم تهز موجات ارتداده أركان المجتمع السعودي وحده بل تجاوزته لتصل للعالم الإسلامي.
فتلك الحادثة التي تحملُ في كل تفاصيلها الباطِلَ كُلَّه، وهي البعيدة عن وسطية الإسلام وسماحته كان لها تأثيرها، وهناك مَن سعى لاستغلالها لتنفيذ أجندته الخاصة معتبراً بأنها إنما جاءت إفرازاً لممارسات مجتمعية خاطئة ومخالفة لمبادئ الإسلام، وهنا جاء ما يسمى بـ(الصَّحْوة)؛ وكأن المجتمع قبلها كان مَارقَاً وتائهاً في غَـيَاهِـب الغفلة التي أيقظه منها (جهيمان ورفاقه)!
أغلب دُعاة (الصّحوة)، في خطابهم الديني لم يهتموا كثيراً بالمعاملات والسلوكيات في صورتها الإسلامية، ولكنهم رفعوا راية البُكائيات والمَوت، والتذكير فقط بعذاب القبر والآخرة، وهم في ذلك استثمروا كل الأدوات والمنابر المتاحة، والتي كان منها التسجيلات التي انتشرت متاجرها في كل شارع وزاوية.
وتَزامن مع بدايات (تلك المسماة بالصّحوة)، ودعمَ برامجها دخول قوات الاتحاد السوفيتي إلى أفغانستان، التي انطلق بعدها ما كان يُعرف بـ(الجهاد الأفغاني)، الذي بحثت عنه طائفة من شبابنا تحت تأثير تلك البُكَائيَّات ودعوات الموت، في ظِـل تسهيلات إجرائية، وتذاكِـر مُخَفّـضَة، وتحت ضغطٍ وتَحْرِيْضٍ من خُطب منبرية وفتاوى حَكَمَتْ بوجوب الجهاد في تلك الدّيار؛ باعتباره من جِهَاد الدَّفع، يَدعمها أشْرطة ومجلات تُوزع بصورة شبه مجانية، كانت تزعم رصدها ومشاهدتها في أرض أفغانستان لمعجزات كبرى وكرامَات عظمى؛ فتلك مثلاً قَبْضَة مِـن الرّمْل تُفَجِّـرُ دَبّابَةً سُوْفِيتّية، وهناك الحديث المُكَثّف عن دِماء هناك كانت بِرائحة المِسـك؛ وكان لذلك دوره الكبير والفَاعِـل في إشعال نيران حماس أولئك الفِتْيَة الذين رأوا في (كابل) مدينة الأحلام والجَنّة!
انسحَب الجيش السوفيتي من كابل عام 1992م، وبدأت الحرب الأهلية بين الفصائل الأفغانية التي كان يقودها مَن عُـرفُـوا بأُمَرَاء الجهاد؛ أمّا أولئك الشباب الذين لقبوا بـ(الأفغان العَـرب) فمنهم مَـن عاد لبلاده ومَسَار حياته الطبيعية، ومنهم مَن انتقل إلى البوسَنة والهرسك والشيشان، وهناك فريق ثالث استقر في أفغانستان، لِتستقطبه الأفكار والأيدلوجيات المتطرفة؛ ولتبدأ عندهم مرحلة (التكفير والتفجير)، ولتأتي «القاعدة» ولتتوالى الأحداث، وظهور الجماعات الإرهابية بمسمياتها المختلفة.
صفحات الماضي تلك لها تداعياتها ومخرجاتها التي عانى منها المجتمع السعودي؛ ليأتي اليوم عَاصُـوف فكري جديد يحاول الإفادة من الدراما ومواقع وبرامج التواصل الحديثة في الإطاحة بسابقه، ورسم صورة غير حقيقية عن ماضي مجتمعنا، الذي بالتأكيد ليس ملائكياً، لكنه كان محكوماً دائماً بمرجعيته الإسلامية وتطبيقاتها التي تقوم عليها الدولة ثم بعاداته وأخلاقياته النبيلة.
فتشويه الماضي، واختزاله في سيناريو -يؤكد القائمون عليه بأنه زمن الطّيّبِيْن-، بينما لم يعرض لأكثر من عشر حلقات إلا (زنا وطفل لقيط، وخيانة زوجية)؛ لا أعتقد بأنه سيكون محطة لبناء المستقبل، فكل شُعوب الدنيا عند عودتها لماضيها تبرز منه أجمل سطوره وأكثرها إشراقاً، لأن تلك هي الخطوط العريضة أما الجُمَـل الشَاذة إنْ وجِدت، فلا حديث عنها لأنها تبقى في حجمها الصغير، والصغير جداً!
فصدقوني رغم كل تلك العواصف كان (المجتمع السعودي) ولا يزال بسيطاً ومحافظاً، ووسطياً في إسلامه، وله أخلاقه الرفيعة النابعة من أصالته، ومتعايش مع الآخر، يكفي شاهداً على ذلك أكثر من 10 ملايين وافد يحتضنهم؛ وكذا ملايين الحجاج والمعتمرين الذي يستقبلهم سنوياً.
أما أولئك الذين يُحاولون اختطافه وفَـرْض أجندتهم عليه من خلال استغلال المستجدات فأمامهم تأكيد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في خطابه خلال افتتاحه أعمال السنة الثانية من الدورة السابعة لمجلس الشورى ديسمبر الماضي، بأنه (لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالاً، ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال).