واشنطن بوست-
أثار ظهور "عائض القرني"، الذي يعد أحد أكثر رجال الدين السلفيين شهرة في المملكة، على التليفزيون السعودي الشهر الماضي اهتمامًا كبيرًا على الصعيدين المحلي والإقليمي، فقد استخدم "عائض القرني" المقابلة للاعتذار للسعوديين "عن الأخطاء التي لم تكن مرتبطة بالإسلام" وعن "الفتاوى المتطرفة" لحركة الصحوة التي كان عضواً فيها لفترة طويلة.
ولم يكن "القرني" مشمولاً في الاعتقالات الكاسحة في سبتمبر/أيلول 2017 والتي استهدفت زملاءه من رجال الدين، مثل "عوض القرني" و"سلمان العودة".
أدان المقابلة رجال الدين السلفيون الناشطون في المنطقة، بينما أشاد بها أنصار الحكومة السعودية، بمن فيهم الممثل الكوميدي البارز "ناصر القصبي"، فقد رأى رجال الدين المقابلة كأنها تخل من "القرني" عن حركة المعارضة الإسلامية المستمرة منذ عقود داخل المملكة، فيما رحب "القصبي" بتحول "القرني" الواضح، رغم أنه قال إن اعتذاره "ليس كافيا".
وتثير هذه الأحداث أسئلة حول الطبيعة المتغيرة للأوساط الدينية السعودية، وتثار هذه الأسئلة في السياق الأوسع لتعزيز ولي العهد الأمير "محمد بن سلمان" لسلطته في السعودية، والذي جاء على حساب المنافسين والمعارضين، بما في ذلك أفراد العائلة المالكة، ورجال الأعمال الأثرياء وناشطي حقوق الإنسان.
وتعتبر مقابلة "القرني" دليلاً قاطعًا على أن أحد المصادر المحتملة الرئيسية للقلق الداخلي هي المعارضة الدينية التي استمرت لعقود في المملكة.
حركة الصحوة
وقد ظهرت المعارضة الممثلة في حركة الصحة لأول مرة في الستينات وعملت خارج السيطرة المباشرة للحكومة السعودية.
وفي البداية كانت الحركة تتصدى لتحرير المجتمع السعودي، لكنها أخذت لاحقًا منعطفًا سياسيًا ووجدت صوتها الأقوى في انتقاد استضافة القوات الأمريكية على الأراضي السعودية بعد حرب الخليج عام 1991.
وقامت السلطات السعودية في ذلك الوقت بسجن العديد من رجال الدين من الصحوة، خشية أن يؤججوا عدم الرضا العام عن علاقات الأسرة الحاكمة بالولايات المتحدة.
بمجرد إطلاق سراح رجال الصحوة، واصلوا نشاطهم، ولكن دون التشكيك العلني في شرعية حكام البلاد، ودعم رجال الدين من الصحوة عمومًا حركة الربيع العربي في مصر وسوريا وليبيا وتونس، على خلاف مع السياسة الخارجية للمملكة أحياناً، وقد أشاد "سلمان العودة" بانتفاضات الربيع العربي، وانتقد الحكم العسكري المصري الذي دعمته السعودية بعد الثورة.
ويبدو أن صعود الأمير "محمد بن سلمان" قد تسبب في حدوث انقسام في حركة الصحوة، واستأثر النظام لنفسه بمصطلح "الإسلام المعتدل" بينما شيطن حركة الصحوة باعتبارها تشجع على التطرف.
وتم توسيع تعريف الدولة السعودية "للإرهاب" ليشمل ليس فقط الجماعات المتطرفة العنيفة مثل "الدولة الإسلامية" و"القاعدة"، ولكن أيضًا الحركات الإسلامية مثل جماعة "الإخوان المسلمون" في مصر، وحقيقة أن أعضاء الصحوة ينتمون إلى جماعة "الإخوان المسلمون" أو يتعاطفون معهم، تجعل الحركة تهديدًا للدولة السعودية في أعين حكامها.
كانت مقابلة "القرني" تأييداً عميقاً للدولة السعودية، بحجة أن ترويج الصحوة لفكرة "الأمة" لمدة طويلة -وهو مجتمع دولي موحد من المؤمنين المسلمين- يقوض أولوية الدولة القومية.
ولا تعبأ الدولة السعودية من وجهة نظر "بن سلمان" بالفلسطينيين أو غيرهم من المجموعات الإسلامية مثل الإيغور، بقدر ما تعارض الإصلاحات السياسية في الدول العربية الأخرى، ويمنح تقديم "القرني" للدولة المحلية على الأمة ولي العهد السعودي الغطاء الديني لأجندته القومية.
التنازع على الإسلام المعتدل
وقال "القرني" في مقابلته عن ولي العهد: "أنا مع إسلام معتدل، منفتح، مثل الذي دعا إليه ولي العهد، محمد بن سلمان"، وأشاد بجهود "محمد بن سلمان" لاستئصال التطرف في بلده في سعيه لأجل "الإسلام المعتدل".
ليس من الواضح دائمًا ما الذي يعنيه "محمد بن سلمان" بـ"الإسلام المعتدل"، ويعد كثير من رجال الدين من الصحوة الذين تم اعتقالهم في عام 2017 أقل أصولية من غيرهم من خارج الحركة، بما في ذلك الموالون الذين يشغلون مواقع المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة.
وشارك "العودة"، أبرز رجال الدين المسجونين، في حوار الملك "عبدالله" الوطني عام 2003، مدافعًا عن التسامح الديني، ويعد أكثر تسامحا مع الأقلية الشيعية في المملكة من معظم رجال الدين الموالين، وحذر "العودة" باستمرار من السفر للقتال في أفغانستان والعراق وسوريا.
وتشير المعاملة التي يتلقاها "العودة" مقابل معاملة "القرني" إلى أن الانقسام الديني الحديث ليس له علاقة بالمعتدلين والمحافظين، وإنما يتعلق قبل كل شيء بالسياسة الداخلية.
التخلي عن الصحوة
ولا يعد "القرني" أول رجل دين من الصحوة ينأى بنفسه عن النشاط السابق، فقد استجاب "محمد العريفي" للنزاع الدبلوماسي للسعودية مع قطر من خلال مهاجمة قطر وحثها على إنهاء ما وصفه بالتدخل في الشؤون السياسية لدول أخرى.
واشتهر "العريفي" سابقا بعلاقته الوثيقة مع قطر وتعاطفه مع جماعة "الإخوان المسلمون" في مصر، لكن مواقف "العريفي" الآن تنسجم تماما مع رغبات "محمد بن سلمان".
ولم يتخل كل من "القرني" و"العريفي" عن حركة الصحوة فجأة بدون مقدمات، ففي السنوات الأخيرة، خففوا نشاطهم من خلال تركيز خطبهم ومحاضراتهم على أعمال العبادة الشخصية والجوانب الروحية للإسلام، وتجنب القضايا الخلافية.
وفي الآونة الأخيرة، يبدو أنهم تحولوا من الهدوء المتأني إلى الدعم الصريح لـ"محمد بن سلمان".
هناك تفسيران محتملان لتخلي "القرني" عن نشاط الصحوة؛ الأول هو أنه تحول حقيقي إلى مصاف الأسرة الحاكمة ورجال الدين التابعين لها، ورجوعا عن أفكاره السابقة.
والثاني هو أنه يخشى القمع الذي يتعرض له أعضاء حركته ويخضع للسلطة للحفاظ على الذات.
وأياً كان السبب الحقيقي، فإن دعم "القرني" لولي العهد السعودي يساعد على إضفاء الشرعية على حملة القمع التي يمارسها النظام على رجال الدين الناشطين الذين تم إعلانهم رسمياً أعداءً للدولة.
السيطرة على المجال الديني
ومع عقد "محمد بن سلمان" العزم على تقديم نفسه على أنه وجه "الإسلام المعتدل، وحقوق المرأة والتقدم الاقتصادي، تعتبر خطواته للسيطرة على الخطاب الديني في السعودية جزءًا من جهوده الأوسع لتركيز سلطته.
تستهدف البيئة السياسية الجديدة في السعودية في ظل "محمد بن سلمان" الأصوات المعارضة، ويظهر ذلك في اعتقال الناشطات ورجال الدين المعارضين والصحفيين.
ويسمح ولي العهد بإتاحة المجال لرجال الدين الموالين لكن لا يوجد مجال لرجال الدين الذين يرفضون تأييده علانية.
قبل وصول "محمد بن سلمان" إلى السلطة، كانت الدولة تستجيب لرجال الدين المعارضين مثل "العودة" عبر نهج العصا والجزرة، فأحياناً تقمع الصحوة، ولكن في حالات أخرى تمنحهم مجالًا للتعبير عن انتقادات مدروسة بعناية.
أما الآن، فقد تم استهداف حتى رجال الدين الذين لا يعلقون على القضايا السياسية، مع إنه كان ينظر إليهم على أنهم موالون.
وفي أغسطس/آب، قُبض على "صالح آل طالب"، إمام المسجد الحرام في مكة المكرمة، بسبب خطبة انتقد فيها الممارسات غير الإسلامية وتم اعتبارها بمثابة نقد ضمني لسياسات ولي العهد للتحرير الاجتماعي.
وفي الماضي، تم التسامح مع الانتقاد المعتدل والضمني من قبل رجال الدين الموالين، أما الآن، فالدعم العلني مطلوب من جميع رجال الدين.