ديفيد بولوك- معهد واشنطن-
أعاد الاختفاء الغامض والمقلق للناقد السعودي المعروف جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول الأسبوع الماضي تسليط الضوء على مفارقة "القمع الإصلاحي" السعودي. وتأتى زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبي إلى المملكة العربية السعودية لتسلط الضوء على خطورة تلك الحادثة. وإن كان وكلاء سعوديون متورطين حقًا في هذه الحادثة، فالأمر "أسوأ من الجريمة، إنه غلطة"، بحسب تعبير تاليران الشهير. ولا شك في أن وسائل الإعلام الغربية والتركية والإقليمية المعادية للسعودية، وعلى الأرجح بعض الوكالات الحكومية، ستسعى جاهدةً لمواصلة التركيز على هذه الحادثة المروعة.
إلا أن السؤال الأساسي الذي قد يتم تجاهله أو تضليله في تلك المناقشة هو الآتي: ما مدى معرفة أو اهتمام السعوديين - بخلاف الخبراء الغربيين أو الإعلام أو المنظمات غير الحكومية – بمشكلة كهذه؟ والسؤال أساسي لأنه يحملنا مباشرةً إلى مسألةٍ ملحّة، وهي مسألة الاستقرار السعودي. وتظهر في هذه العملية الحسابية عوامل مختلفة بدءًا من العنف الفردي مرورًا بالتدخل الأجنبي ووصولاً إلى الشقاق ضمن النخبة. وعلى المدى الطويل، فإن تآكل الثقة في الأعمال التجارية المحلية والأجنبية قد يفوق الأرباح غير المتوقعة والمحققة اليوم من سعر برميل النفط البالغ ٨٠ دولارًا. لكن في الوقت الحالي، هل يمكن أن تكون عمليات الاعتقال والاختفاء الأخيرة سببًا، أو ربما نتيجةً، لبعض الاضطرابات الكبيرة التي تختمر تحت أرضية المملكة الهادئة؟
بناءً على زيارتي الأخيرة إلى الرياض والمحادثات اللاحقة مع السعوديين وأشخاص آخرين حول قضية خاشقجي والقضايا المماثلة، فإن إجابتي باختصار هي، على الأرجح لا. فبالرغم من فظاعة هذه الحادثة، تبقى أهميتها الأوسع نطاقًا مسألةً مستقلة. وفي حين أن مثل هذه الحوادث تضر بطبيعة الحال بسمعة المملكة العربية السعودية في أوساط بعض المحللين الغربيين والصحفيين والمستثمرين، إلا أنها ليست بالمهمة بالنسبة إلى معظم سكان البلاد. ونتيجةً لذلك، وعلى عكس ما هو شائع، لا يهدد مثل هذه الأعمال حكومة المملكة بصورة خطيرة – أقلّه ليس من حيث الاحتجاجات الجماهرية أو الانشقاق المنظم من قِبل قطاعات رئيسية من المجتمع مثل المؤسسات التجارية أو الدينية، أو المهنية أو العسكرية.
ومن بين العوامل الكامنة وراء هذا الحكم (رغم أنه غير معروف) هو الدليل الواضح على أن الحكومة السعودية تدرك آراء شعبها بشكل متزايد وتهتم له وتستجيب إليه إلى حد ما. فخلال زيارتي الأخيرة إلى المملكة في تموز/يوليو، أمضيت يوًما في "مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني"، وهو معهد مقره الرياض يُعنى بتقييم المواقف الشعبية وتعزيز الخطاب الداخلي السعودي. وقد تأسس المركز منذ خمسة عشر عامًا، لكنه زاد من إنتاجيته بشكل كبير بعد تقلّد الأمير محمد بن سلمان منصب ولي العهد منذ عامين. ويشار إلى أنّ المركز مستقل بالاسم على الأقل، إذ قيل لي إن مصدر التمويل يأتي من تأجير برجين من الأبراج المكتبية الضخمة الثلاثة التي يملكها في وسط مدينة الرياض.
ويحاول خبراء المركز تشجيع الشعب السعودي على المشاركة في المناقشات والحوارات حول القضايا التي تؤثر على المواطنين السعوديين العاديين وحول الاتجاه العام للبلاد. ويتمثل أحد الأهداف في تعزيز الشعور بالوحدة من أجل الصالح العام والمصالح الوطنية. كما يعقد المركز ورش عمل وندوات وينظّم مهرجانات وتجمعات ضخمة في جميع أنحاء البلاد شارك فيها مئات الآلاف من السعوديين خلال فترة العقد والنصف الأخيرة.
لكن الهدف الآخر والجديد لهذا المركز يكمن في جسّ نبض الرأي العام، للحصول على مدخلات منهجية بشأن السياسات الرسمية - وليس لمجرد التواصل والتوعية لتعزيز تلك السياسات بعد حدوثها. وفي هذا الصدد، أشار أحد كبار مدراء المركز إلى أنه مفهوم غير مألوف وصعب في المملكة العربية السعودية، لكنه يؤخذ حاليًا على محمل الجد على أعلى مستويات الحكومة. لذلك، في الفترة القريبة من تولّي الأمير محمد بن سلمان المنصب، أنشأ المركز قسمًا مخصصًا لإجراء استطلاعات الرأي. ومنذ ذلك الحين، تم إيفاد أكثر من 100 استطلاع رأي، وتم استطلاع ما يقدَّر مجموعه بـ33 ألف مواطن سعودي.
وبحسب الخبراء الذين تحدثتُ إليهم، مكّنت رؤى المركز من تزويد الحكومة بأكثر من 100 توصية سياسة محددة خلال العامين الماضيين، وتم قبول وتنفيذ 65 منها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الدعم الشعبي للقرار الذي طال انتظاره هذا العام والذي يقضي بالسماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة. وهناك قضايا أخرى، بحسب ما أفاد خبراء استطلاعات الرأي، تطال مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ومن بينها الحملة الانتقائية إنما العلنية للغاية ضد الفساد.
وباعتباري خبير في استطلاعات الرأي، فقد كنت مفتونًا ومنبهرًا إلى حدٍ كبير بكل هذا، على الرغم من أنني لم أتمكن مع الأسف من الحصول على المزيد من التفاصيل. فمن خلال استطلاعات الرأي التي أجريتها بنفسي في المملكة العربية السعودية، أعرف أن السعوديين كانوا على استعداد كبير للتعبير عن آراء متضاربة حتى في ما يتعلق ببعض القضايا الحساسة. فعلى سبيل المثال، طُرِح العام الماضي سؤال ما إذا كان ينبغي "تفسير الإسلام بصورة أكثر اعتدالاً وتسامحًا وحداثةً"، و30 في المئة فقط أجابوا بـ"نعم"، على الرغم من أن هذا الرقم يبلغ ضعف الرقم المسجّل في أواخر عام 2015. إنما في ما يخص القضايا السياسة الخارجية، تؤكد استطلاعات الرأي التي أجريتها أن السياسات السعودية الرسمية تتوافق إلى حد كبير مع رأي الشعب. فالخوف من إيران وكرههم لها ولوكلائها الإقليميين، بدءًا من الحوثيين ووصولاً إلى "حزب الله"، يكاد يكون عموميًا، ليس بين النخبة السعودية فحسب، بل في الشارع السعودي أيضًا.
ويصحّ ذلك، وإن كان مع أغلبيات أصغر، في ما يخص إجراءات استفزازية أخرى، ومن بينها الخلاف مع قطر والتحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، وحتى الدعم المشروط للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، قدّم رئيس "رابطة العالم الإسلامي" في السعودية مؤخرًا اقتراحًا مدهشًا يقضي بتنظيم مسيرة من أجل السلام نحو القدس - إلى جانب رجال دين يهود ومسيحيين. ولكن ستكون مسيرة مماثلة مدعومةً ضمنيًا من حوالي ثلثي الشعب السعودي الذي يعبر عن رغبته في أن يحلّ السلام مع إسرائيل شرط أن يتم احترام الحقوق الفلسطينية.
وإلى جانب هذا الدعم الإحصائي لمزيج الحكومة السعودية المتغيّر من الإصلاح الداخلي التنازلي والنشاط الأجنبي، تشير الأدلة المتناقلة إلى الاتجاه نفسه. فعلى سبيل المثال، عندما سألتُ بعض المتخصصين السعوديين من ذوي النفوذ الكبير إنما المستقلين عن مصير جمال خاشقجي المجهول، بدوا غير مبالين. ففي الواقع، بدوا أكثر قلقًا بشأن العاصفة الإعلامية التي أثارتها هذه الحادثة منه بشأن الرجل نفسه - أو بشأن القيود القاسية على الحريات الشخصية التي تمثلها قضيته. أما بالنسبة إلى السعوديين الساخطين حقًا، وهم من الأقلية، فعلى الأرجح سيخيفهم مثال خاشقجي الصادم أكثر ممّا قد ينفرهم، فما بالكم من التحرك. ففي الواقع، ربما كان هذا هو الدافع الجريء وراء اختطافه الظاهر في المقام الأول.
وعلى نطاق أوسع، عندما تحدثت مع شباب من الطبقة الوسطى في الرياض حول الطبيعة التعسفية لحملة مكافحة الفساد، لم يكن معظمهم غير مبالٍ فحسب، بل كانوا متحمسين بشكل إيجابي. وورد تعليق نموذجي واحد: "بعد أربعين عامًا من المكاسب غير المشروعة، نال هؤلاء الرجال في فندق الريتز ما يستحقون". وذهب آخرون إلى أنه حتى لو أخذنا في عين الاعتبار بعض الظلم الذي لا مفر منه، يُعتبر هذا السلوك الاستبدادي ثمنًا يُستحق دفعه مقابل الحريات الاجتماعية المتزايدة التي بدأ يتمتع بها السعوديون. كما قالوا إن الانتقاد الخارجي لهذه المقايضة كان ببساطة مضللاً، إن لم يكن سيء النية.
وعلى نحو مماثل، في ما يخص الحرب في اليمن المجاور: في حين ينظر بعض الأجانب إلى التدخل السعودي هناك على أنه مستنقع دموي لا داعي له، إن معظم السعوديين الذين تحدثت إليهم مؤخرًا داخل أو خارج بلادهم ما زالوا يعتبرونه عمليةً ضروريةً للدفاع عن النفس. وفي هذا السياق، أخبرني أحد خبراء الدفاع الأمريكيين، وهو عسكري ذو خبرة يتحدث اللغة العربية بطلاقة وقضى السنوات الأخيرة في العمل مع الجنود السعوديين داخل البلاد، أنه لطالما نظر معظمهم إلى الحوثيين في اليمن على أنهم يمثلون خطرًا حقيقيًا. كما قال إنّ مأخذهم الرئيسي لا يتعلق ببطء وتيرة التقدم الذي تحرزه الجهود القتالية السعودية، إنما بالدعم الأميركي الفاتر لهذه الجهود.
وتميل أخطاء أخرى مفترضة في السياسة الخارجية السعودية، بدءًا من الاختطاف المجهض لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وصولاً إلى المقاطعة العقيمة لدولة قطر، إلى الحصول على تأييد وتبرير، أو في أسوأ الأحوال تجاهل السعوديين الذين أقابلهم. وبالطبع يخضع الإعلام السعودي، ويشمل ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، لرقابة صارمة. وفي الآونة الأخيرة يتوخى الكثير من السعوديين الحذر حتى في المحادثات الخاصة. وما لا شك فيه هو أن بعض الانتقادات الحادة تجد طريقها إلى المناقشات العربية على الإنترنت رغم كل القيود. ومع ذلك، ما من إشارة تدل على وجود موجة عارمة من المعارضة الشعبية، أو على مقاومة متمركزة في قطاعات رئيسية من المجتمع السعودي.
والعامل الأخير وراء تأييد (أو إذعان) العديد من السعوديين هو شعورهم بأن الخبرة السعودية حول منطقتهم لا تقل عن أي تقييم خارجي. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، لديهم أسباب كثيرة ليشعروا بذلك. ففي السنوات القليلة الماضية، تعرفتُ على خبراء أحترمهم كثيرًا وهم من الأكاديميين السعوديين ذات النوايا الحسنة والمعنيين في شؤون إيران واليمن والشيعة، وحتى إسرائيل. واليوم، يتمتع هؤلاء الخبراء بالكثير من الكفاءة اللغوية المطلوبة والاستقلال الفكري، وأحيانًا حتى بالخبرات الحية في تلك المناطق لتقديم مشورة مستنيرة بشأنهم. واليوم أيضًا، هناك عدد صغير، ولكن متزايد، من مراكز الفكر السعودية لدعم هذه المجموعة من المعارف والمشورة المحلية.
وإجمالاً، فإن حكمة وأخلاقيات السياسات والممارسات السعودية الحالية، بدءًا من مكان وجود جمال خاشقجي وصولاً إلى الحرب في اليمن، ومن قمع الفساد إلى قمع حرية التعبير، تبدو مختلفةً جدًا داخل المملكة أو خارجها. فقد يتساءل بعض الغرباء بشأن بعض خيارات الحكومة السعودية. ولكن يجب ألا يضللوا أحكامهم بتوقعات خاطئة لا أساس لها من الصحة حول عدم الاستقرار السعودي. فداخل المملكة، تتضاءل أهمية القضايا التي يلوح طيفها في الخارج أمام انتباه الحكومة السعودية الشامل إلى نبض شعبها.