الخليج الجديد-
لماذا تأرجحت مواقف الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بشكل لافت إزاء أزمة اغتيال الكاتب الصحفي "جمال خاشقجي" داخل القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول التركية منذ الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وحتى الرابع والعشرين من الشهر ذاته؟
سؤال فرض نفسه بقوة على مراقبي الشأن الأمريكي بعد أن تحول "ترامب" إلى أول مسؤول رسمي يقترب من حافة التصريح الرسمي بأن ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" هو المسؤول الأول عن جريمة الاغتيال، وفقا لما نقلته "وول ستريت جورنال".
وقال "ترامب" للصحيفة الأمريكية إن "الأمير (بن سلمان) يدير الأمور هناك (في السعودية) أكثر من أي شخص آخر في هذه المرحلة، إنه هو من يدير الأمور، وإذا كان هناك ثمة شخص مسؤول (عن اغتيال خاشقجي) فسيكون هو".
ويمثل هكذا تصعيد ضد ولي العهد السعودي مفارقة للعديد من المراقبين، في ظل تأخر تفاعل الرئيس الأمريكي مع تطورات الإعلان عن اختفاء "خاشقجي" من جانب، وميل أغلب مواقفه اللاحقة إلى القبول بمخرج يضمن استبعاد "بن سلمان" من الاتهام بالمسؤولية عن الجريمة من جانب آخر.
فـ"ترامب" لم يعلق على أزمة "خاشقجي" إلا بعد 6 أيام من إعلان اختفائه، وتحديدا في 8 أكتوبر/تشرين الأول، مكتفيا بالتعبير عن قلقه بشأن التقارير الصحفية التي تنشر بشأنه.
قدمت تلك التقارير، التي سربتها السلطات التركية، تفاصيل عديدة للجريمة موثقة بالأدلة، في وقت كان الرئيس الأمريكي فيه مشغولا بترديد تصريح واحد أمام تجمعات لناخبين أمريكيين، في إطار التحضير لمنافسات انتخابات الكونغرس المقبلة، مفاده أن "الولايات المتحدة تحمي السعودية وعليها أن تدفع الثمن"، حيث شهد يوم التاسع من أكتوبر المرة الرابعة لتكرار التصريح ذاته.
أول تفاعل
وسجل يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أول تعاط تفصيلي من جانب الرئيس الأمريكي، اقتصر فيه على إعلان تواصله مع "خديجة جنكيز"، خطيبة "خاشقجي" التركية، ومع المسؤولين السعوديين على أعلى المستويات.
وفي اليوم ذاته، رفض الرئيس الأمريكي مطالبات أعضاء بالكونغرس لوقف مبيعات الأسلحة للسعودية، وشدد على أنها مهمة للولايات المتحدة وتوفر لها مئات الآلاف من الوظائف، زاعما أن المملكة يمكنها التحول لشراء احتياجها من الأسلحة من روسيا أو الصين بسهولة.
وشهد يوم الـ13 من أكتوبر/تشرين الأول تحولا في موقف "ترامب" من الأزمة، بالتزامن مع إطلاق سراح القس الأمريكي المحتجز في تركيا "أندرو برونسون"، حيث ألمح للمرة الأولى بـ"عقاب قاس" بحق السعودية في حال ثبوت تورطها باغتيال "خاشقجي".
رواية المارقين
وبعد يومين فقط (15 أكتوبر/تشرين الأول)، أعلن "ترامب" أنه اتصل بالعاهل السعودي الملك "سلمان بن عبدالعزيز"، معبرا عن اعتقاده بأن "قتلة مارقين" يقفون وراء اغتيال "خاشقجي".
واعتبر مراقبون للشأن الأمريكي آنذاك أن الرئيس الأمريكي يحاول تمرير رواية تضمن إفلات ولي العهد السعودي من مسؤولية الجريمة، الأمر الذي ضاعف ضغوط الكونغرس والصحافة الأمريكية، إلى حد اتهامه بأنه يغلب "مصالحه المالية الشخصية" مع أمراء السعودية على قيم ومصالح الدولة الأمريكية.
واستمر "ترامب" في تسويق رواية "القتلة المارقين" حتى يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول، حيث أعلن أن "بن سلمان" نفى علمه بما جرى لـ"خاشقجي"، وواصل دفاعه عن السعودية، رافضا فكرة أن "المتهم مدان حتى تثبت براءته"، وفقا لما نقلته شبكة "سي إن أن".
حافة التصريح
لكن اليوم التالي (18 أكتوبر/تشرين الأول) شهد تحولا آخر، بتأكيد "ترامب" على أن "خاشقجي" مات، وأن عواقب ذلك ستكون "وخيمة"، في إشارة إلى أن السعودية ستدفع ثمن الجريمة.
وبعد اعتراف السعودية رسميا بمقتل "خاشقجي"، وترويجها لرواية "القتلة المارقين"، عاد الرئيس الأمريكي للتأكيد على تصديقه الرواية السعودية.
وانتهى المطاف بـ"ترامب" إلى أول اقتراب من حافة التصريح بمسؤولية "بن سلمان" عن جريمة اغتيال "خاشقجي" للمرة الأولى، تزامنا مع خطاب المكاشفة الذي ألقاه الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" أمام قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم.
ضغط إجماعي
ترى صحيفة "جورنال دو ديمونش" الفرنسية أن حالة الإجماع الدولي المتوافقة مع التصعيد الإعلامي داخل الولايات المتحدة واشتغال ضغوط الكونغرس دفعت "ترامب" إلى التخلي عن محاولة إيجاد مخرج لـ"بن سلمان" بنهاية المطاف.
وأشارت الصحيفة، في تقرير نشرته، الأربعاء، أن أروقة الكونغرس شهدت بدء حركة للدفع باتجاه تصويت لصالح فرض عقوبات على السعودية بصرف النظر عن موقف ترامب، بموافقة العديد من نواب حزب الرئيس (الجمهوري).
كما أفادت تقارير صحفية أمريكية بأن مؤسسات الدولة الأمريكية العميقة، لاسيما المخابرات المركزية (CIA)، انحازت إلى صف الكونغرس، خاصة في ظل اطلاعها على بعض الأدلة التي وثقها الأتراك لبشاعة اغتيال "خاشقجي" وتقطيع جثته إربا من جانب، وإطلاق أنقرة سراح "برونسون" من جانب آخر.
وإزاء ذلك، وجد "ترامب" نفسه مضطرا للإدلاء بتصريح لصحيفة "واشنطن بوست"، التي كان "خاشقجي" أحد كتابها وتزعمت الحملة للمطالبة بمعاقبة المسؤولين عن اغتياله، استنكر فيه "الكذب والخداع السعودي" رغم وصفه السابق لرواية اعتراف المملكة بأنها "موثوقة"، بحسب الصحيفة الفرنسية.
مصالح السياسة
وعن الخلفية الأولى، التي دفعت الرئيس الأمريكي لمحاولة إيجاد مخرج لـ"بن سلمان" على مدى أكثر من أسبوعين، يرى أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان بجامعة حمد بن خليفة في قطر "محمد مختار الشنقيطي" أنها لا تتمثل في "المصالح التجارية" التي طالما أشار إليها "ترامب" في خطاباته، وفقا لما صرح به لقناة "الجزيرة".
فخبراء التسليح يؤكدون استحالة استبدال السعودية لمنظومتها العسكرية بالكامل بقرار غير متدرج، خاصة سلاحها الجوي، الذي يعتمد على قطع غيار لا يمكن إنتاجها إلا بالولايات المتحدة، وخاصة في ظل انخراط جيشها في حرب لا أفق لنهايتها باليمن، ما يعني أن التذرع بصفقة الأسلحة لم يكن سوى غطاء لهدف "ترامب" الحقيقي.
ويشير "الشنقيطي"، في هذا الصدد"، إلى أن هدف "ترامب" من محاولة التغطية على "بن سلمان" كان سياسيا بالدرجة الأولى، ويتمثل في الإبقاء على رأس سلطة سعودية ضامنة لعلاقات تحالف بأعلى مستوى ممكن مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من جانب، ولترويج ما سمي إعلاميا بـ"صفقة القرن" لتصفية القضية الفلسطينية من جانب آخر، وإلا فالمصالح التجارية ممكنة في ظل وجود ولي عهد سعودي آخر.
وأضاف أن تزامن ضغوط الصحافة والمؤسسات الأمريكية والمجتمع الدولي وتركيا مع اقتراب انتخابات الكونغرس ضاعف من الضغوط على "ترامب"، ودفعته لإعلان ترك الكونغرس وشأنه في ملف "خاشقجي" صراحة، في كلمة للصحفيين أمام البيت الأبيض.
وأشار "الشنقيطي" أن القرار في شأن "بن سلمان" لم يعد ملكا لـ"ترامب" بعد تطورات المشهد الأمريكي والدولي، ولو كان الأمر بيده وحده لاختار استمرار دعم ولي العهد السعودي إلى النهاية.
بندول التاجر إذن وراء تغير مواقف الرئيس الأمريكي من اغتيال "خاشقجي".. لكنها تجارة السياسة على الأرجح عندما يمارسها بعض رجال الأعمال.