غونول تول - فورين أفيرز- ترجمة زياد محمد -
جاء مقتل الصحفي "جمال خاشقجي" في القنصلية السعودية في إسطنبول في أسوأ وقت ممكن بالنسبة للرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، وكان يُفترَض أن يسحقه احتمال حدوث أزمة مع السعودية، أحد أكبر المستثمرين في تركيا في ظل الاضطرابات الاقتصادية التي أجبرته على إيقاف خطاباته المناهضة للغرب ومواجهة البلد لأزمة عملة وتضخم وعجز هائل في الحساب الجاري، وضرورة إصلاحه للعلاقات التركية السيئة مع أوروبا وواشنطن، وإدارة شراكة هشة مع روسيا في سوريا.
لكن ذلك لم يحدث، ووفقا لمقال الكاتب "غونول تول" في مجلة "فورين أفيرز" فإنه إذا كان لشخص أن يحوّل عبئا بمثل هذا الحجم إلى فرصة، فسوف يكون هو "أردوغان" بكل تأكيد.
أثبتت أزمة "خاشقجي" أنها فرصة غير متوقعة لتركيا، وفي الوقت الذي شُوِّهت فيه سمعة البلاد بسبب سجن الصحفيين في أعقاب الانقلاب الفاشل منتصف عام 2016، تلقى "أردوغان" الثناء لإلقائه الضوء على محنة "خاشقجي".
وعن طريق تسريب أدلة على تواطؤ رسمي سعودي، بما في ذلك ولي العهد الأمير "محمد بن سلمان"، فقد وجه ضربة كبيرة للمنافس التاريخي لتركيا ودق إسفينا في العلاقة بين واشنطن والرياض.
ولكن وفقا لـ"فورين أفيرز" فإن "أردوغان" يلعب لعبة صعبة وخطيرة؛ فقد يتمكن من الحصول على المزيد من السعودية والولايات المتحدة إذا استطاع إقناعهم بأن لديه أدلة تجريم، ولكن إذا لم يفعل، فيمكنه أن يفقد كل شيء.
منافسة إقليمية شرسة
تنافست تركيا والسعودية طويلا من أجل التفوق الديني والسياسي في العالم الإسلامي السني، وقد اشتد هذا التنافس تحت حكم "أردوغان"، الذي أضاف بعدا دينيا للقيادة السياسية التركية.
ونتيجة لذلك، تشكل تركيا في عصر "أردوغان" تهديدا خاصا للسيادة الإقليمية السعودية، مع وجود نخبة حاكمة تعتبر نفسها الوريث الشرعي للتراث العثماني، تحمل نسخة أقل تشددا من الإسلام مقارنة بالسلفية السعودية، وقد أصبح ينظر إلى تركيا على أنها تقدم نموذجا بديلا للحكم الإسلامي.
وفي أعقاب انتفاضات الربيع العربي، نظر الإسلاميون العرب إلى تركيا كمثال على بلد وصل فيه حزب ذو أصول إسلامية إلى السلطة من خلال السياسات الانتخابية، دون أن يضطر إلى التخلي عن أجندته المحافظة.
أصبح البلد الذي نفذ في يوم من الأيام أكثر برنامج علماني راديكالي في العالم الإسلامي، يحكمه الآن حزب العدالة والتنمية، الذي كان يمثل شكلا من أشكال الإسلام المتوافق مع الديمقراطية، وبالنسبة لليبراليين العرب، بدا أن اعتدال حزب العدالة والتنمية يوفر طريقا وسيطا بين الحكومات السلطوية العلمانية والإسلاميين الراديكاليين، وهو نموذج يمكن أن تشارك فيه الأحزاب الإسلامية في عملية ديمقراطية.
ووفقا للمجلة الأمريكية، فقد هزت صورة تركيا الإسلامية السعوديين، وبدأ النزاع بين رؤيتي البلدين في الظهور في عام 2013، عندما انتقد "أردوغان" بشدة الانقلاب في مصر الذي أطاح بحليفه المقرب "محمد مرسي" في حين أشاد السعوديون بالجيش المصري لإنقاذ البلاد.
ولاحقا، أدى صعود "محمد بن سلمان" إلى السلطة إلى تفاقم التوترات بين الرياض وأنقرة، حيث ينظر الإسلاميون في تركيا إلى الأمير الشاب باعتباره بيدقا للولايات المتحدة وإلى تعهده بتحويل المملكة إلى دولة إسلامية معتدلة باعتبارها خطة إمبريالية أمريكية إسرائيلية لتقويض الإسلام الحقيقي، ومن وجهة نظر أنقرة، فإن تحالف ولي العهد الوثيق مع واشنطن ونهجه المتهور والعدواني في السياسة يخلقان المزيد من عدم الاستقرار ويقويان يد إيران في المنطقة.
وقد تصاعد التوتر بين الحكومتين عندما وصف "محمد بن سلمان" تركيا بأنها جزء من "مثلث الشر"، إلى جانب إيران والجماعات الإسلامية المتشددة، في اجتماع مع الصحفيين المصريين في مارس/آذار 2018، وقد لخصت تصريحات ولي العهد شكوك الرياض العميقة، في البلد الذي انحاز إلى جانب قطر في نزاعها مع الكتلة التي تقودها السعودية، واستضاف قادة "الإخوان المسلمون" الذين فروا من مصر بعد الانقلاب، وعمل عن كثب مع إيران في سوريا.
في الوقت نفسه ذكرت وسائل الإعلام في تركيا أن مسؤولين سعوديين التقوا مع العدو اللدود لتركيا؛ حزب العمال الكردستاني في سوريا، مما غذى مخاوف في أنقرة بأن الأمير كان عازما على تقويض المصالح التركية في المنطقة، خاصة بعد إعلان المملكة أنها ساهمت بمبلغ 100 مليون دولار من أجل "مشاريع تثبيت الاستقرار" في الأراضي التي يحتفظ بها الأكراد السوريون.
ولكن حتى في الوقت الذي يزداد فيه غضب وسائل الإعلام التركية من تصرفات السعودية، فإن "أردوغان" نفسه قد ابتعد عن انتقاد القيادة السعودية بشكل مباشر، كما أرسل وحدة صغيرة من القوات إلى قطر في أعقاب الحصار ثم طمأن دول الخليج أن القوات التركية لا تشكل تهديدا للمنطقة، كما لم ينبسّ بكلمة بعد إعلان المملكة عن دعمها للأراضي التي يسيطر عليها الأكراد، كما أنه لم يرفع صوته ضد حرب الرياض الوحشية في اليمن.
وقد لعبت الاعتبارات الاقتصادية دورا في إحجام "أردوغان" عن تصعيد التوتر مع الرياض، حيث ساهمت المملكة، إلى جانب دول الخليج الأخرى، في مساعدة "أردوغان" لتقليل اعتماد تركيا على أوروبا من خلال الاستثمار في البلاد وشراء العقارات التركية، حيث يتمتع البلدان بعلاقات اقتصادية وثيقة منذ تولي "أردوغان" السلطة.
اللعبة الخطيرة
ووفقا لـ"فورين أفيرز"، فإن هناك اعتبارات مشابهة تؤثر في طريقة تعامل تركيا مع حادثة "خاشقجي"، ففي حين يزعم المسؤولون الأتراك أنهم يملكون التسجيل الصوتي لعملية القتل، فإن أنقرة مترددة في الوقوف بمفردها ضد الرياض وتريد أن تضع القضية كمسألة عالمية وليس قضية ثنائية بين البلدين.
وتحقيقا لهذه الغاية، قام مسؤولون أتراك غير معروفين –فيما بدا بناء على أوامر من "أردوغان" بشكل واضح- بتسريب معلومات إلى وسائل الإعلام الغربية من أجل زيادة الضغط العالمي على ولي العهد السعودي، وقد عبرت وسائل الإعلام التركية والدوائر الموالية للحكومة عن غضبها إزاء القتل وأشارت إلى أنه لم يكن من الممكن أن يحدث دون موافقة القيادة العليا في المملكة، لكنها امتنعت عن تسمية "محمد بن سلمان" مباشرة.
وقد أثمرت جهود أنقرة لجذب الانتباه الدولي إلى قتل "خاشقجي" والضغط على نظام "بن سلمان"، فقد قال الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريس" إنه "مضطرب للغاية" بسبب الحادث، وضغطت الدول الأوروبية الرئيسية على المملكة لتقديم الحقائق حول مقتل "خاشقجي"، كما انسحبت العديد من الشركات من مؤتمر الاستثمار في السعودية الذي عقد في الرياض، الأسبوع الماضي.
يبدو أنه لدى تركيا ما يكفي من الأدلة لإلحاق مزيد من الضرر بالمملكة، ولكن ذلك سيؤدي إلى مزيد من التمزق مع العلاقات مع الرياض وهو أمر يتردد "أردوغان" بشأن فعله، وبدلا من ذلك، يفضل أن يقوض ولي العهد مع الحفاظ على علاقات ودية مع الملك "سلمان"، هذا من شأنه أن يحل مشكلة أنقرة مع "محمد بن سلمان" دون أن يعيق استمرار تدفق الاستثمارات السعودية إلى تركيا، وفي المناقشات التي تجرى بين الحكومتين منذ مقتل "خاشقجي"، قد يحاول "أردوغان"الاستفادة من الأدلة التي لديه للحصول على ضخ المساعدات المالية المطلوبة بشدة من الرياض.
على جانب آخر، قد تلعب أنقرة لاستغلال الموقف لصالحها أيضا من ناحية إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، التي جعلت "محمد بن سلمان" محور سياستها في الشرق الأوسط وتريد بشدة أن تختفي قضية "خاشقجي"، بعد أن توترت العلاقات التركية الامريكية مؤخرا إلى نقطة الانهيار، وبعد أن أغضبت تركيا واشنطن بقرارها شراء نظام دفاع صاروخي روسي من طراز "إس-400" واعتقال مواطنين أمريكيين بتهم الإرهاب، كما ألهبت الولايات المتحدة أنقرة باختيارها التعاون مع ميليشيا كردية سورية تعتبرها أنقرة منظمة إرهابية.
لكن تركيا قامت مؤقتا بتصفية الأجواء مع "ترامب" من خلال إطلاق سراح قس أمريكي سجنته لمدة عامين بتهم الإرهاب، لكن التوترات لم تنته بعد، ففرض عقوبات الطاقة الوشيكة من إدارة "ترامب" على إيران سيشكل فتيل اشتعال أزمة جديدة، حيث تعتمد تركيا على إيران لاحتياجاتها من الطاقة، وسيكون من الصعب أن تمتثل للعقوبات.
كما يواجه بنك خلق المملوك للدولة التركية غرامات كبيرة من وزارة الخزانة الأمريكية بسبب انتهاكه للعقوبات المفروضة على إيران، ومن المرجح أن تؤدي هذه الغرامة إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية للبلاد قبيل الانتخابات المحلية في عام 2019، ويمكن أن يستخدم "أردوغان" الأدلة التي يدعي أنه يملكها من أجل إعادة تقييم علاقات تركيا مع واشنطن والحصول على تنازلات، مثل المزيد من التساهل في الغرامات أو التنازل عن عقوبات.
يعرف "أردوغان" أنه يجب عليه أن يتحرك بحذر للحفاظ على نفوذه على واشنطن والرياض وأن يتفادى حدوث تمزق في العلاقات مع أي منهما في الوقت ذاته، وهو ما فعله في خطابه يوم الثلاثاء الماضي أمام البرلمان التركي، فقد وصف القتل بأنه "جريمة قتل مع سبق الإصرار"، نافيا ادعاءات السعودية بأن "خاشقجي" توفي في شجار في القنصلية، وألقى تلميحات كبيرة بأن ولي العهد كان وراء القتل لكنه استمر في الامتناع عن تسميته مباشرة، وأشاد بالملك "سلمان" على نزاهته، ولم يكشف عن كل شيء يعرفه عن القتل، حتى يتمكن من الاستمرار في استخدام بعض الأدلة كوسيلة للضغط، والنتيجة المثالية من وجهة نظره هي أن يزيح الملك "سلمان" نجله عن السلطة.
لكن احتمالات الوصول لهذه النتيجة تبدو قاتمة، خاصة إذا قررت إدارة "ترامب" التمسك بولي العهد، لكن بعد أسابيع من التسريبات والضغط المتزايد من الكونغرس، شدد الرئيس "ترامب" على مضض في خطابه على السعودية، وعادت مديرة وكالة المخابرات المركزية "سي آي ايه"، "جينا هاسبل" من رحلة إلى أنقرة لمناقشة المسألة مع المسؤولين الأتراك، وأطلعت "ترامب" على ما تعرفه.
وإذا اكتشفت "هاسبل" أن الأتراك لديهم الكثير من الأدلة في متناول اليد، فقد يضطر "ترامب" إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد ولي العهد، ويمكن لـ"أردوغان" الاستفادة من الأدلة التي لديه لدفع المصالح التركية.
ولكن إذا ما قررت الولايات المتحدة، بدلا من ذلك، أن الأتراك لا يملكون دليلا يربط "بن سلمان" مباشرة بالقتل، فإن واشنطن قد تختار التمسك بالرواية السعودية بأن الجريمة كانت من عمل "قتلة مارقين" أو أنها تمت دون تصريح من ولي العهد السعودي على كل حال، ولن يضعف ذلك من شأن "أردوغان" فحسب، بل سيجعل تركيا هدفا لمزيد من التحركات العدائية من جانب منافس غاضب، وفي السيناريو الأسوأ لتركيا، سوف تفضي قضية "خاشقجي" إلى مزيد من الاتصالات بين المسؤولين السعوديين وحزب العمال الكردستاني، ومحاولات سعودية أكثر عدوانية لتقويض النفوذ الذي تحاول تركيا بناءه في أماكن مثل الكويت أو البحر الأحمر، واستثمارات أقل من المملكة ودول الخليج الأخرى في تركيا. تبدو الرهانات عالية، ويجب أن يلعب "أردوغان" هذه اللعبة بأقصى قدر ممكن من الحكمة.