ملفات » قضية جمال خاشقجي

السلفية المعاصرة والظلم العظيم في قضية ولي الأمر

في 2018/11/10

عبد الوهاب الأفندي- العربي الجديد-

أعادت قضية قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، إلى الواجهة مرة أخرى مسألة دور من يسمون أنفسهم علماء الدين، وخصوصا من المنتمين إلى التيار السلفي المتسيّد (بأمر الدولة وتوجيهها) على الساحة العامة في المملكة العربية السعودية.

فقد سارعت طائفة من هؤلاء لدعم الموقف الرسمي على مذهب انصر أخاك (أو سيدك) ظالماً أو مظلوماً. صرّح أحدهم مثلاً بعدم جواز نصح الحاكم علناً، لأن هذا من "كشف العيوب" التي ينبغي أن تبقى مستورة.

وقد تفوّق آخر كان عند بعضهم مرجوّاً قبل هذا ليشبّه حاكم السعودية بالرسول الكريم، ويشبّه من أرسلهم لقتل خاشقجي بخالد بن الوليد، بحسبان أنهم "أخطأوا"، ما يوجب التبرؤ اللفظي من أفعالهم، فتعود الأمور إلى نصابها، وكفي بهذا التشبيه إساءة للإسلام ونبيه!

وصف ثالثٌ في خطبة دينية (قبل أن تعترف المملكة بالجريمة) أن اتهام جهاتٍ سعوديةٍ بهذه الجريمة ما هو إلا شائعاتٌ وحملاتٌ إعلاميةٌ مُغْرِضَة، ومحاولةٌ فاشلةٌ لتعويق "مسيرة التجديد في هذه البلاد المباركة برعايةٍ من ولاة أمرها، وحرصٍ واهتمامٍ من الشاب الطَّمُوح المُحَدِّث المُلْهَم وَلِيّ عهد هذه البلاد المحروسة".

وأضاف أن البلاد ستظل متمسّكة "بمبادئها وثوابتها، معتمدةً في ذلك على الله وحده، ثم على حكمة قادتها، وتلاحم أبنائها، فهي الكفيلة بإذن الله لمواجهة المزاعم الباطلة". ووصف ما اعترفت به القيادة "الحكيمة الملهمة" فيما بعد بأنه حقٌّ مبين.

تأتي كل هذه المواقف من مبدأ تروّجه المدارس السلفية بدرجاتٍ متفاوتة، وهي أن طاعة ولي الأمر تظل واجبةً مهما طغى وتجبر وظلم، حتى يعلن الكفر البواح.

ويبدو أن الشرط الأخير قد انتفى، حيث إن صاحب الخطبة أعلاه وغيره قد أفتوا بطاعة ترامب، بل وبطاعة نتنياهو، وولي أمرهم يجتهد الآن في ترتيب ما وصفت بصفقة القرن، التي بموجبها يفرض على كل الفلسطينيين البيعة لخادم ثالث الحرمين، مولانا بنيامين بن نتنياهو وولي عهده الأمين، أفيغدور ليبرمان.

وقد وفّر علينا آخر من أدعياء العلم عناء إبطال هذا المبدأ الغريب، وذلك بالتطوّع بما يسميه الفلاسفة "برهان الخلف" (أي بيان أن المبدأ تنطبق عليه نتائج لا يقبلها عقل) على بطلانه، حين أفتي بأنه لا تجوز نصيحة الحاكم علناً، حتى لو زنا وشرب الخمر علناً.

يقول صاحبنا (وفي درسٍ قدّمه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم) “إنه لو قام الحاكم بالزنا لمدة نصف ساعة، وشرب الخمر على التلفزيون الرسمي، فإنه لا يصحّ الخروج عليه".

بل لا يجوز النهي علناً عن هذا الإثم المبين المتلفز، كما "لا يجوز لك التحريض عليه، ولا ذكر اسمه، لا تصريحا ولا تعريضا". فمن الواضح أن أي مبدأ تترتب عليه نتائج مثل هذه باطل عقلاً وشرعاً.

فحتى في أكثر بلدان العالم ليبراليةً، لا يمكن لمن يمارس التمثيل في أفلام إباحية أن يتولى أي منصب عام، مهما صغر، حتى لو كان تاب إلى الله، وترك تلك المهنة، فما بالك بزعيم أمة إسلاميةٍ، لا يفترض أن تبث فيها مثل هذه المشاهد أساساً.

(إلا إذا كان صاحبنا يعلم ما لا نعلم عن قرب بث مشاهد إباحية في "التلفزيون الرسمي" في بلاد الحرمين، يشارك فيها أولياء الأمر).

ونحن نتابع اليوم كيف قامت القيامة على الرئيس الأميركي الحالي، بسبب علاقة سرّية (غير متلفزة) مع ممثلة إباحية. ونحن هنا لم نتحدّث عن القيم العربية الإسلامية حول الأفعال التي "تخرق المروءة"، وتحظر على صاحبها المناصب العامة في أي مجتمع، حتى في الجاهلية.

نحن هنا إذن أمام إشكال كبير وانحراف غير مقبول في الفكر السلفي، دفعه إلى مخالفة أحد أهم مبادئه، هو مبدأ التوحيد. ذلك أن هذه التوجهات تجسّد ما يراه السلفيون أنفسهم شركاً بواحاً، استناداً إلى تفسير نبي الإسلام آية اتخاذ بعض أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله بأنهم قبلوا منهم تحريم الحلال وتحليل الحرام، أي قبلوا بهم سلطة دينية.

وعليه، فإن أي جهة تحاول فرض نفسها سلطة دينية تحرّم الحلال وتحلل الحرام متواطئة في إثم الشرك، وهو الظلم العظيم. ويتأكّد هذا إذا خضعت هذه السلطة المزعومة لسلطة الحاكم الذي يقوم بإنشائها والتحكّم في قراراتها. فإذا قال إن موالاة إسرائيل وغيرها من المعتدين جائزة، بل واجبة، قالوا بذلك من دون أن تطرف لهم عين.

وإذا أفتى بالتبرّج والرقص (والزنا المتلفز)، قالوا آمين. وعليه، فإن محتوى الدين لا يشكّل، بهذا الفهم، عبر نصوص القرآن والسنة، بل عبر أهواء الحكام، وهذا بابٌ ثالثٌ من أبواب الشرك، هو باب "من اتخذ إلهه هواه"، سوى أن علماءنا الكرام يتخذون هوى غيرهم إلهاً!

ولو عدنا إلى دعوى أن نصيحة الحكام لا بد أن تكون في السر، فإن هذا بابٌ آخر من أبواب تضييع الدين. فتعاليم الدين وضعت للتعميم والنشر، وليس للنجوى والمسارة، فلو أن شخصاً (حاكماً أو غيره) ارتكب الآثام في السر، فإن نصيحته في السر تكون مقبولةً. ولكن آثام الحكام بطبيعتها علنية، ما يوجب بيان الحكم فيها علناً.

ومن يقصّر في ذلك يعرّض نفسه لعقوبة كتمان ما أنزل الله من الكتاب لقاء ثمن قليل (مهما كانت المبالغ التي يتلقاها "كبار العلماء")، والعقوبة هي بالنص: "أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".

من المؤسف أن تتحوّل الدعوة السلفية، وهي المفترض فيها أن تحيي ما مات من سنن الإسلام وتعيد مرجعيته إلى ممارسات السلف الصالح (وليس كل من هب ودب)، إلى ترويج بدع ما أنزل الله بها من سلطان، مثل طاعة كل من غلب، وتحويل أهواء الحكام الفاسدين إلى مصادر تشريعٍ تعلو على القرآن والسنة، والدعوة إلى كتمان ما أنزل الله، وتجريم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما أهم خصائص هذه الأمة كما جاء في صحيح التنزيل.

وقد أضرّ هذا أكبر الضرر بالدعوة السلفية، زاد على ما نسب إليها من صلةٍ بالإرهاب والعنف والتنطع.

وهناك الآن حاجةٌ ملحةٌ إلى إصلاحٍ شامل، يعيد هذا التيار إلى المسار الصحيح، من وجهة نظره ومنطلقاته الأصيلة. ونحن نترك هنا جانباً ما ورد في بعض الدراسات العلمية الرصينة لهذه التيارات إذ إنها، في الحقيقة، مبتدعة في الأصل، تعتمد تفسيرات المتأخرين في تعريف السلف الصالح، وتركّز على ظاهر النصوص، لا على مضمونها، وتستند، في بعض مواقفها، إلى أحاديث ظاهرة الوضع.

بل نقبل ما تصف به نفسها من أنها اتباع للإسلام المبرّأ من التزيّد والأهواء. فلا يمكن أن تروج مثل هذه الدعوة لمخالفة صريح القرآن، وممارسات الرسول الكريم (ص) وخلفائه، ممن لم نسمع منهم نهياً عن نصح الحكام وتقويمهم في العلن.

بل دعوا إلى ذلك علناً ("أشيروا عليّ أيها الناس"، "إن أصبت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني"، إلخ). وقبل ذلك كله وبعده، لم يكونوا يكذبون علناً أو يروّجون أكاذيب المجرمين ممن "يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط"، فمن أين يأتي هؤلاء بهذه البدع المنكرة؟