الخليج أونلاين-
أثار إيفاد سعود المعجب، المدعي العام السعودي، إلى إسطنبول، لبحث قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، الكثير من الاستغراب؛ فالرجل تجرأ مؤخراً على الرأي العام بموافقته على القتل تعزيراً لدعاة ومشايخ وعلماء عُرفوا بمكانتهم الاجتماعية داخل المملكة وخارجها، على رأسهم سلمان العودة وعلي العمري والخبير الاقتصادي عصام الزامل.
وفي الوقت الذي تحتاج فيه السعودية إلى من يدفع عنها تهم القسوة على مواطنيها والبطش والتنكيل بهم وراء القضبان، لم تخفِ تركيا خيبة أملها من نتائج زيارة "المعجب"، الذي وصل إلى إسطنبول يوم 29 أكتوبر الماضي، دون تقديم أي جديد في قضية ما زالت تشغل الرأي العام العالمي.
- "المعجب" تأثَّر بالملك
ونظراً إلى بشاعة الجريمة وتعقيدات القضية سياسياً وجنائياً ودبلوماسياً، من المهم تسليط الضوء على المدعي العام السعودي وتعاطيه مع هذا الملف وبعض القضايا التي شغلت الرأي العام العربي والسعودي.. فمن هو سعود المعجب؟
وُلد سعود المعجب عام 1966 في محافظة الأفلاج جنوبي العاصمة الرياض، ويروي أنه يهوى السباحة والفسحة في الريف، في حين يتضح من مساره الأكاديمي أنه حصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة قبل أن يلتحق بسلك القضاء.
وإثر تردده على الملك سلمان -عندما كان الأخير أميراً لمنطقة الرياض- وحضور مجالسه وتأثُّره بشخصيته الحازمة العازمة، أصدر العاهل السعودي قراراً ملكياً، في يونيو عام 2017، بتعيين سعود المعجب نائباً عاماً في المملكة، بعدما كان قاضياً بالمحكمة الجزائية، وقبلها رئيساً لمحكمة الأحوال الشخصية في الرياض، ثم عضواً بالمجلس الأعلى للقضاء بمرتبة رئيس محكمة استئناف.
ولم تكن الفترة التي عُيِّن فيها الرجل في هذا المنصب الرفيع عادية بالسعودية، بل شهدت حصار قطر وصعود محمد بن سلمان لولاية العهد بعد عزل ابن عمه محمد بن نايف، بالإضافة إلى ما صاحب ذلك من سجن العديد من الأمراء والدعاة والكُتاب ورجال الأعمال.
وتشمل اختصاصات النيابة العامة بالسعودية التصرف في الدعاوى ذات الطابع الجنائي، وتوجيه التهم، والتحقيق في الجرائم، وتمثيل الادعاء العام أمام القضاء، والإشراف على تنفيذ الأحكام.
- الرياض وأسئلة تركيا المُحيِّرة
لم يكن لقاء المدعي العام السعودي مع نظيره التركي إيجابياً، إذ لم يُجب عن الأسئلة الثلاثة التي يبحث فريق التحقيق التركي عن أجوبة لها من السلطات السعودية، بهدف استكمال ملف قضية خاشقجي وإعلان نتائج التحقيقات للرأي العام.
وكانت تركيا قد طلبت تعاون السعودية في ثلاثة أشياء أساسية: العثور على جثة خاشقجي، ومحاكمة المعتقلين الـ18 بالسعودية في تركيا، والكشف عن الجهة التي أعطت الأمر بقتل خاشقجي.
وحاولت الرياض التقرب إلى أنقرة عن طريق زيارة "المعجب"، الذي حلَّ في إسطنبول خالي الوفاض إلا من محاولات، تقول الصحافة التركية إنها تهدف إلى إخراج الرياض من "الورطة" التي وقعت فيها منذ أسابيع عدة.
وحتى الآن، لم يُعثر على جثة خاشقجي، في حين تؤكد تسريبات الأمن التركي أن ضباطاً مقربين من محمد بن سلمان خنقوه ثم قطّعوا جسده ووضعوه في أكياس. وباتت هذه القضية تحاصر نجل الملك، رغم محاولاته الهروب من الاتهامات الموجهة إليه، وسط تزايد الضغوط العالمية المطلبة بعزله ومحاكمته.
وكشفت مصادر أمنية تركية لـ"الجزيرة"، أن النائب العام السعودي، سعود المعجب، استمع إلى جزء من التسجيلات الخاصة بقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، غير أن المسؤولين الأتراك رفضوا تسليم "المعجب" نسخة من التسجيلات، في حين شكك مسؤول تركي بارز في صدق إرادة السعودية للتعاون في كشف كل ملابسات القضية.
وحتى إفادات الأشخاص الـ18 المعتقلين في السعودية على خلفية قضية اغتيال خاشقجي، والتي سلمها النائب العام السعودي لتركيا، لم تضف شيئاً في التحقيق، بحسب الادعاء العام التركي.
ويحرص السعوديون على الاطلاع على ما بحوزة تركيا من أدلة تدين قتلة خاشقجي، لكن المسؤولين الأتراك لم يلمسوا إرادة صادقة من نظرائهم في المملكة للتعاون في التحقيقات الجارية حتى الآن، في حين راهنت الحكومة السعودية على زيارة سعود المعجب في الحصول على هامش -ولو بسيطاً- للتحرك ودفع التهم عن ولي العهد.
وفي هذا السياق، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن ثمة مسرحية تؤديها السعودية في قضية مقتل خاشقجي، مشدداً على أنه لا داعي لهذه المماطلة، التي تهدف إلى "إنقاذ شخص ما"، من دون أن يسميه.
وأشار أردوغان إلى أن النائب العام التركي، عرفان فيدان، طالب نظيره السعودي، سعود المعجب، بالكشف عن المسؤول الذي أصدر الأوامر بتنفيذ عملية الاغتيال، ومحاكمة المشتبه في ضلوعهم بالقضية. كما طالب أردوغان المسؤولين السعوديين بالكشف عن هوية المتعاون المحلي الذي يقولون إنه ضالع في اختفاء جثة خاشقجي.
- "المعجب" وعدالة "الريتز"!
في مطلع نوفمبر 2017، اعتقلت السلطات السعودية أكثر من 200 شخص؛ ما بين أمير ورجل أعمال وكاتب وصحفي، وسُجن الأمراء بفندق الريتز كارلتون ذي الـ5 نجوم، في حملةٍ قالت الرياض إنها لمكافحة الفساد، اتضح لاحقاً أن هدفها الإطاحة بمن يشكّلون خطراً على ولي العهد الشاب وتصفية الأقلام غير الموالية لـ"ولاة الأمر"، في نظر سلطات المملكة.
وبينما تعاطى ولي العهد ومستشاره حينها، سعود القحطاني، مع الشق السياسي للحملة، كان لا بد من ظهور النائب العام في شقها الجنائي، فأصدر بيانات تتهم المعتقلين بالفساد، ومعتقلي الرأي بـ"الإرهاب ومخالفة الأنظمة والقوانين الشرعية".
وأشادت الصحافة السعودية في ذلك اليوم بتصريحات للنائب العام، شدد فيها على أن الموقوفين في قضايا الفساد "لن يتلقوا أي معاملة خاصة، وسيعامَلون طبقاً للقانون".
لكن النائب العام، المتأثر بشخصية الملك والمعتز جداً بثقة ولي عهده، لم يوجه إلى الأمراء والنافذين تهماً رسمية، وإنما أسبغ الصفة القانونية على صفقة أبرمتها معهم السلطة، هي: إطلاق سراحهم مقابل مليارات الدولارات، بعد أن فقدوا مناصبهم ونفوذهم في مواجهة ابن عمهم الذي يهرول نحو العرش.
و"المعجب" تولى بنفسه التحقيقات مع الأمراء والوزراء ورجال الأعمال الموقوفين في قضايا الفساد، ويرى أن القضاء "أمانة ومسؤولية عظيمة"، لكنه لم يفسر للرأي العام سبب استضافة كبار المعتقلين في واحد من أفخم الفنادق العالمية، في حين يُلقي بالمواطنين العاديين في غياهب السجون المتوارية خلف الرمال؟!
- "المعجب" وإعدام الدعاة
وفي مطلع سبتمبر 2018، صدم النائب العام السعودي العالم عندما طالب بإعدام الداعية المعروف سلمان العودة، ووجّه إليه 37 تهمة تتعلق بالإرهاب والتطرف ومخالفة النظام العام.
وإلى جانب "العودة"، طالب "المعجب" بإنزال عقوبات قاسية على دعاة وكُتاب تتهمهم الرياض بالتطرف والتواصل مع جهات خارجية، في حين تؤكد تسريبات أنهم اعتُقلوا لأنهم صمتوا عندما أرادت منهم السلطة أن يسبوا قطر وتركيا وقناة الجزيرة وجماعة الإخوان المسلمين.
وفي تغريدة على "تويتر"، نبّه عبد الله بن سلمان العودة إلى أن الرجل الذي أوفدته السعودية بشأن مقتل خاشقجي هو ذاته الذي طالب بإعدام والده تعزيراً.
د. عبدالله سلمان العودة (خلال حفل تأبين #جمال_خاشقجي): النائب العام السعودي الذي "يشارك" في التحقيق بجريمة قتل #خاشقجي هو نفسه الذي طالب بـ "القتل تعزيراً" ضد والدي سلمان العودة، ونفسه الذي طالب بعقوبات مشددة ضد الاقتصادي عصام الزامل، ثلاثتهم كان ذنبهم فقط هو النشاط السلمي pic.twitter.com/WW2kWV0mmN
— الثورة المضادة (@cou_revolution) November 4, 2018
وبغض النظر عما إذا كان "المعجب" يتصرف بوحي من "ولاة أمره" أم من ضميره، فإن تعاطيه مع قضية خاشقجي اتسم بالارتباك والعجلة، وحتى التناقض.
ففي الوقت الذي لم يصدر فيه النائب العام التركي أي بيان بشأن قضية خاشقجي، حتى بعد مضي 26 يوماً من تفتيش مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول والسيارات الدبلوماسية التابعة لها، ومنزل القنصل؛ والاستجواب والتحقيق؛ وتعقُّب رحلات الطيران وحجوزات الفنادق، لم يفتح النائب العام السعودي تحقيقاً في القضية، ولم يعلق عليها إلا بعدما اعترفت المملكة بقتل خاشقجي داخل قنصليتها في إسطنبول.
وبعد الاعتراف السياسي وفي أقل من 72 ساعة، أصدر النائب العام السعودي بياناً بشأن عملية قتل الصحافي وطبيعته وأسبابه، وحدد الجناة واعتقلهم ووجَّه إليهم التهم.
ويرى العديد من متابعي قضية خاشقجي، أنه من الصدفة فقط أن تكتمل تحقيقات النائب العام السعودي قبل انتهاء مهلة الساعات الـ72 التي منحتها واشنطن للرياض، لتحديد الضالعين في قتل صحفي دخل قنصلية بلاده للحصول على ورقة رسمية لإتمام زواجه بسيدة كانت تنتظره أمام المبنى، وخرج منها مقطّعاً وموزعاً بين أكياس!
لكن ارتباك النيابة العامة في السعودية لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما تغيرت روايتها لسبب القتل، من الشجار، مروراً بالخنق، وانتهاء بتأكيد التخطيط المسبق للجريمة.