محمد شرف- البيت الخليجي-
السعودية قبل 2 أكتوبر/ تشرين الأول؛ ليست كما بعده؛ مقتل الصحافي جمال خاشقجي داخل قُنصلية بلاده في اسطنبول أدخل الرياض في زاوية ضيقة، تواجه عاصفة من التهديد والابتزاز، في أكبر (بازار) مالي وسياسي على الإطلاق.
قد تكون هذه الأزمة وتداعياتها، هي الأخطر والأقوى على النظام، منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة. فالغضب العالمي والصخب الإعلامي إثر الحادثة، لازال يتواصل ويشتد. مُضعفاً صورة المملكة ومُحرجاً لحُلفائها. فالرياض لم تعد تُمثل (رصيداً مفتوحاً) للرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ بل عبئاً عليه. وعليه يبدو التفكير في القفز من سفينة محمد بن سلمان خياراً يساور العديد من الحكومات الداعمة للمملكة، مالم تُسارع الأخيرة في مُراجعة سياساتها الإقليمية، خاصة مع إطلاق واشنطن وعواصم أوروبية دعوات لإيقاف القتال باليمن خلال 30 يوماً.
لكن، ما دور مقتل الإعلامي السعودي في تحول الموقف الأمريكي من حرب اليمن؟ ثم هل يُمكن أن تُسلط “جريمة القُنصلية” أنظار المجتمع الدولي على حرب اليمن المنسية، والعمل على تدخل فاعل لوقفها؟
ترامب: المنطقة الرمادية
وجد صُناع القرار في الدول المصدرة للسلاح إلى السعودية في جريمة مقتل “خاشقجي”، مُتنفساً لهم، يُطلقون من خلالها تهديداتهم وابتزازهم للرياض دون مخاوف من تعطيل صفقات أسلحتهم. ووفقاً لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام؛ فإن السعودية تحتل المركز الثاني عالمياً والأول عربياً في شراء السلاح، حيث تستورد 61 في المائة من أسلحتها من الولايات المتحدة و23 بالمائة من بريطانيا. ولعل هذا، ما يُفسر عدم صدور قرار أمريكي أوروبي فاعل بوقف مبيعات السلاح إلى المملكة.
في قراءة للعديد من المواقف الأمريكية والأوروبية تجاه هذه الجريمة وتداعياتها على دعمها للرياض في حربها باليمن، يتضح مدى “ضبابية” الموقف الذي بدا عليه الرئيس دونالد ترامب، مُفضلاً – في الأيام الأولى من الحادثة – الوقوف في “المنطقة الرمادية”، ليبدو الرجل بعد ذلك مُرتبكاً ومُتناقضاً، مُطلقاً سلسلة من المواقف المُدافعة على المملكة والمُهددة لها في نفس الوقت، لكنها تهديدات لا تُمثل وقف تصدير الأسلحة؛ فقد أعلن ترامب علانية أن أمريكا “ستعاقب نفسها” إن هي أوقفت بيع السلاح إلى السعودية.
أمام ضغط الرأي العام الأوروبي، اتسم موقف لندن وباريس بالمناورة و”المُراوغة”، بشأن دعوات وقف تسليح الرياض. بريطانيا التي تأتي في المرتبة الأولى من بين الدول الأوروبية الأكثر تصديراً للسلاح إلى السعودية؛ لم يصدر من جانبها موقف قوي بشأن تعليق أو تجميد مبيعات السلاح إلى الرياض، لتبقى تصريحات أليستر بيرت وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، باحتمالية تأثير نتائج التحقيق في مقتل “خاشقجي” على الدعم البريطاني للسعودية في تدخلها باليمن.
الرئيس إيمانويل ماكرون نفى في 12 أكتوبر/تشرين الأول، اعتبار السعودية العميل الرئيس لفرنسا، فيما يتعلق بتجارة الأسلحة، لكن الإحصائيات توضح تسلُم الرياض أسلحة من باريس بقيمة 1,38مليار يورو العام الماضي، ما يجعل المملكة ثاني أكبر عميل لفرنسا. تبقى المانيا التي باعت الرياض أسلحة بقيمة 416,4 مليون دولار خلال يناير – سبتمبر 2018، أول دولة تُعلن تعليق عمليات بيع الأسلحة للرياض، في إطار ردها على مقتل خاشقجي.
إلى ذلك؛ صوّت البرلمان الهولندي بأغلبية ساحقة على مشروع إيقاف تجارة الأسلحة مع السعودية.
ضغوط بوقف مبيعات السلاح للسعودية
الأهم في تداعيات حادثة القُنصلية السعودية هو ذلك الزخم من الضغوط التي يمارسها السياسيون والإعلام الغربي وجماعات حقوق الإنسان، في مواجهة صُناع القرار في الولايات المتحدة والحكومات الغربية، والداعية إلى وقف مبيعات الأسلحة إلى المملكة.
في واشنطن؛ فتح الإعلام الأمريكي ملف مقتل “خاشقجي” من أوسع أبوابه، فيما ارتفعت أصوات أعضاء في مجلس الشيوخ من الجمهوريين والديمقراطيين، تُطالب ترامب بإيقاف صفقات السلاح. وفقاً لصحيفة “واشنطن تايمز” الأمريكية؛ فإن المُشرعين الأمريكيين المعارضين لحرب السعودية على اليمن لا يضيعون وقتاً في تكثيف الضغوط على المملكة. ونقلت الصحيفة عن المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكي مارتن إنديك قوله: “أميركا لديها الفرصة الآن للجلوس مع بن سلمان، وإخباره بأن واشنطن لا تستطيع المضي قُدماً في هذا الطريق”.
وعلق النائب جيمس ماكفورن الذي يعمل حالياً مع 20 نائباً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على جهود تعليق كل مبيعات السلاح إلى المملكة: “إن قتل خاشقجي يجب أن يدفع أميركا إلى وقف مبيعات السلاح إلى الرياض، فقيمنا الديمقراطية على المحك الآن، وعلينا أن نرتقي كبلد ونفعل الشيء الصحيح”.
دعوات وقف حرب اليمن.. التوقيت والأهداف
السؤال الأهم؛ لماذا استغرق الأمر طويلاً حتى تُبادر اليوم إدارة ترامب، لإطلاق دعوات وقف الحرب باليمن؟ وما جديّة ذلك التحول؟ من الواضح بأن “جريمة القُنصلية” عملت على كشف طبيعة النظام السعودي موجهة أنظار العالم لجرائم الحرب باليمن، فحاول ترامب تخفيف ضغط الرأي العام الأمريكي المُطالب بحظر مبيعات السلاح للمملكة بإطلاق دعوات وقف الحرب.
كما أن الانتخابات النصفية الأمريكية، التي كان الرئيس يُعول عليها في تحديد مسار ما تبقى من ولايته، لم تكن بعيدة عن توقيت هذه الدعوات. خاصة وأن الديمقراطيون- يؤيدهم عدد من الجمهوريون- يقودون حملة قوية لفرض عقوبات على السعودية ويطالبون بوقف الحرب في اليمن. يُضاف إليها؛ إطالة أمد الحرب واقترابها من دخولها عامها الخامس، وسط تزايد الانتقادات لواشنطن.
بالعموم فإن عدم صدور أي موقف أمريكي قوي، تجاه معاودة التحالف السعودي الإماراتي تصعيده في محافظتي الحديدة وصعده، عقب دعوات وقف الحرب خلال 30 يوماً؛ يعني بأنها (مُهلة الفرصة الأخيرة)، التي منحتها واشنطن للرياض وأبوظبي، لإمكانية تحقيق انتصار استراتيجي، قُبيل المفاوضات المرتقبة.
التحالف السعودي الإماراتي: “الفرصة الأخيرة”
جغرافياً؛ تتصدر الحديدة وصعده، خارطة الصراع حالياً، بالإضافة إلى محافظة حجة شمال غرب اليمن. في الحديدة؛ تسعى ثلاث تشكيلات مدعومة إماراتياً (قوات العمالقة الجنوبية، المقاومة التهامية، قوات طارق صالح)، إلى تطويق المدينة والسيطرة على مداخلها الرئيسية. وبناءً لمعلومات ميدانية حديثة؛ تتواصل المعارك في محيط المدينة، حقق التحالف اختراقات هامة إلى داخل المدينة ما بين 2- 3 كيلو من الجنوب والشرق، على وقع مئات الغارات الجوية وقصف البوارج الحربية . وهو ما يُنذر بدخول المدينة على حرب شوارع.
وفي صعدة؛ أطلق التحالف حملة عسكرية كبيرة بمشاركة 10 ألوية، تعمل في 11 محور. تتركز المعارك باتجاه مديريات حيدان وشدا والظاهر ومران المعقل الديني لجماعة الحوثي. يقول التحالف أنه أحرز تقدماً ميدانياً في العديد من المناطق. وبناءًا على المعطيات العسكرية والمعلومات الميدانية؛ فإن الحملة العسكرية (في نسختها الثالثة) لم تستطع – حتى الآن– من إحراز أي نصر استراتيجي؛ فمطار الحديدة وميناءها لا يزالان خارج سيطرة التحالف. كما لازالت الهجمات الصاروخية الحوثية التي تنطلق من محافظة صعدة؛ تُشكل تهديداً للمدن السعودية.
لكن، لماذا هذا التصعيد العسكري؟
تسعى الرياض وأبوظبي من خلال التصعيد الأخير، إلى إحداث جُملة من المكاسب، تسبق بها انعقاد المفاوضات اليمنية المُرتقبة؛ منها السعي لإحداث تحول جوهري في موازين القوى على الأرض، وتحسين فُرص موقفهما التفاوضي أمام جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وكذلك زيادة الضغط على الجماعة وإجبارها – في المفاوضات القادمة – تسليم المدينة إلى الأمم المتحدة، إن لم يكن الانسحاب منها. يحرص التحالف على إخراج المدينة من نفوذ جماعة الحوثي، وحرمانها من أهم ورقة تفاوضية. يُضاف إليه، حسابات ومصالح خاصة بالتحالف، في إطار التنافس الجيوسياسي بينه وقوى إقليمية (إيران وتركيا) على النفوذ بالبحر الأحمر وخليج عدن. (1)
ويسعى التحالف الى استكمال السيطرة على سواحل اليمن الغربية، من مضيق باب المندب جنوباً حتى ميدي بجانب الحدود السعودية شمالاً، في إطار ما أطلق عليها ترامب بالمنطقة الآمنة(2). أما في صعده، فيسعى التحالف من خلال معاركه هناك إلى ضمان حماية حدوده الجنوبية، ووقف إطلاق الهجمات الصاروخية، ومحاولة فرض منطقة منزوعة السلاح الثقيل داخل حدود محافظة صعدة، خاصة بعد كشف وزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس -مؤخراً – عن تسوية تتضمن تقسيم البلاد وحكم ذاتي للحوثيين، رفضتها حكومة هادي وجماعة الحوثي .
سيناريو التوقف
يبدو توقف الحرب اليمنية اليوم خسارة كبيرة لكل من الرياض وأبوظبي. وفشل جزء كبير من الأهداف الخفية للحملة العسكرية على اليمن، على رأسها مشروع التقسيم. وفقدانها للكثير من المكاسب التي حققتها، عبر حُلفاءها المحليين. بالإضافة إلى تقوية الموقف التفاوضي للحوثيين.
دون شك؛ يبدو سيناريو توقف الحرب مُعقداً؛ فمن المرجح ليس هناك نهاية قريبة للنزاع الذي اقترب من دخول عامه الخامس. لكن، توقف النزاع يعتمد بدرجة أساسية على مدى قُدرة جماعة الحوثي على الصمود في معركة الاحتفاظ بمدينة الحديدة؛ كونها معركة مصيرية، تتوقف على نتائجها مرحلة هامة في مساري الحرب والحل. كما أن نجاح القوات المدعومة من التحالف في استعادة سريعة للمدينة، من شأنه أن يُجبر جماعة أنصار الله على تقديم تنازلات مؤلمة في أي مفاوضات قادمة.
وتبقى أسوأ السيناريوهات؛ في احتمال اقتحام المدينة والدخول في حرب شوارع وسط أحياء سُكانية مأهولة، يُقوّض فيها التفوق الجوي للتحالف، وتطول فيها أمد المعركة.(3)
انتقد خاشقجي – في حياته – حرب بلاده العبثية في اليمن، مُحذراً من كُلفتها الإنسانية. وفي مماته لفت دمه، أنظار العالم، إلى الحرب المنسية. فهل يُنهي دم جمال خاشقجي؛ نزيف دماء اليمنيين؟
المراجع:
1- (معركة الحديدة: الأهداف الإستراتيجية الإماراتية والتجاذبات الإقليمية)، مركز الجزيرة للدراسات،1 أغسطس، 2018
2- (أين تقع منطقة ترامب الآمنة)، رأي اليوم،22- فبراير 2017
3- (معركة الحُديدة: السيناريوهات المُحتملة)، البيت الخليجي،2 يوليو 2018