ملفات » قضية جمال خاشقجي

السعودية وبن سلمان.. سلطة مطلقة وفساد مطلق

في 2018/11/26

مضاوي الرشيد- ميدل إيست آي- ترجمة شادي خليفة -

قد يكون تركيز الإعلام الدولي على ولي العهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان"، باعتباره المشتبه به الرئيسي في مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي"، أمرا مفهوما ومبررا.

لكن الاهتمام بهذا وحده يحول التركيز عن هياكل السلطة التي استولى عليها "بن سلمان" ومكنته من كل ما يفعل.

وتعد هياكل السلطة المطلقة هذه هي التي سمحت للحكام السابقين للمملكة العربية السعودية، وربما "بن سلمان" في المستقبل، أن يحكموا دون أي اعتبار على الإطلاق للقواعد الأساسية واللائقة للسياسة التوافقية.

وتسمح هذه الهياكل لـ"بن سلمان" باللجوء إلى العنف بمختلف درجاته، ما بين الاعتقالات غير المبررة والتعذيب في السجون والقتل.

السياق السياسي

وفي الماضي، ذكّر "بن سلمان" الحاضرين معه بأنه كملك مستقبلي لـ"آل سعود"، فهو ليس "غاندي" وليس ديمقراطيا، وكان يتباهى دون خجل بثروته، وذكّر الصحفيين بأنه ثري، ومن المفاجئ أنه لم يتفاخر بإفلاته من العقاب عندما انتهج سياسات قاسية لا هوادة فيها.

وبينما تواصل وسائل الإعلام الدولية إدانة "بن سلمان"، فقد حان الوقت للتدقيق في السياق السياسي الذي أدى إلى تجاوزاته.

يظل صعود "بن سلمان"، أو أي أمير آخر، إلى أعلى منصب في الحكومة من اختصاص شخص واحد، وهو الملك.

وقد أصبح "بن سلمان" ولي العهد العام الماضي نتيجة لقرار من والده، الملك "سلمان"، ولم يتم التشاور مع أي أحد للتحقق من أن "بن سلمان" كان "الرجل المناسب في المكان المناسب"، وهو قول سعودي يكرره الناس كل مرة يقوم فيها الملك بتعديل وزير أو منصب حكومي.

وبعد أكثر من عام، كان اسم ولي العهد مرتبطا بفضيحة من شأنها تشويه السعودية لفترة طويلة.

وكانت قرارات الملك هي الشيء الوحيد الذي وضع "بن سلمان" بسرعة في طليعة السلطة الملكية.

وتم تهميش لجنة البيعة التي أنشأها الملك "عبدالله" عام 2007 بالكامل، حيث مات معظم أفرادها من كبار أعضاء العائلة المالكة، وقد تم تهميش الأمراء الـ33 المتبقين في اللجنة، وتم احتجاز العديد منهم في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، في إطار عملية مزعومة لمكافحة الفساد، وتم إطلاق سراحهم في وقت لاحق، وحتى هذه اللحظة لا يزالون صامتين.

ولم يكن للملك "سلمان" إخوة مساوين له في الهيبة أو الاحترام عندما اتخذ هذا القرار التاريخي لوضع ابنه كملك المستقبل للمملكة، وقد يأتي اليوم الذي يندم فيه على هذا القرار.

الجيل الأخير

ويعد الملك "سلمان" آخر الملوك من جيل الأمراء الذين اقتسموا السيطرة على المملكة كإقطاعات خاصة، حيث سيطر كل من الإخوة المهمين على حصة مهمة للغاية في الحكومة (على سبيل المثال "فيصل" و"فهد" و"سلطان" و"نايف" و"عبدالله")، ومنهم من اهتموا بحشد الثروات بدلا من الحكم (مثل "طلال")، أو فضلوا العيش كأمراء متفرغين يمضون أوقاتهم بين مختلف القصور حول العالم.

وكان هذا هو الحال بالنسبة لبقية الأسرة المالكة، والتي يقدر عددها بأكثر من 5 آلاف شخص، وأصبح أبناء كبار الأمراء، مثل أبناء "فيصل" و"فهد" و"نايف" و"سلطان" و"عبدالله" نوابا لآبائهم خلال حياتهم، عندما أصبحوا طاعنين في السن، أو تم إرسالهم إلى المحافظات كحكام للأقاليم، أو تم إعطاؤهم أدوارا مركزية أقل داخل البيروقراطية السعودية.

وكان أبناء "فيصل" وجوه المملكة بالخارج، ولقد لعب كل من "سعود" و"تركي الفيصل" هذا الدور بشكل أثار إعجاب المجتمع الدولي، فالأول كان وزير الخارجية لأكثر من 3 عقود حتى توفي، في حين كان الثاني أول مدير للاستخبارات وسفير لاحق في واشنطن ولندن.

والآن، تم تكليف الأمير "تركي" بمهمة كسب الرأي العام في الولايات المتحدة، وهو الدور الذي لعبه سابقا بعد 11 سبتمبر/أيلول، عندما قدم محاضراته حول التسامح في المنتديات الأكاديمية، وحتى الكنائس ومراكز الفكر، من أجل الدعاية للنظام السعودي.

ومرة أخرى، يحاول "الفيصل" جاهدا نزع فتيل التوتر في الولايات المتحدة بعد مقتل "خاشقجي"، من خلال تنظيم لقاءات مع الصحفيين، وقد تم إرسال أخوه الأكبر "خالد الفيصل"، حاكم مكة، على الفور إلى إسطنبول بعد مقتل "خاشقجي" لإجراء مفاوضات مع "أردوغان".

ومن هنا نرى أنه عندما يغيب التشاور والإجماع بين الأمراء، يظهر أشخاص مثل "بن سلمان" في المملكة، يتسببون في إزعاج على الصعيدين المحلي والدولي.

وعندما لا يكون لدى مثل هؤلاء الأشخاص أوراق اعتماد مثبتة، فقد يؤدي ذلك إلي مواقف كارثية كأزمة القنصلية.

تدقيق

تفتقر المملكة إلى المؤسسات التي تستطيع كبح جماح الأمراء الذين يتصرفون بشكل سيئ، وتقول الأسطورة إن الملك "سلمان" نفسه اعتاد على تأديب الأمراء شخصيا عندما كان حاكما للرياض لمدة نصف قرن تقريبا، وللأسف، يبدو أن نجله قد نجا من تلك الرقابة الأبوية.

وبدون وجود مجلس عائلي ملكي فعال أو جمعية وطنية منتخبة، فإن الملك يكون ذا سلطة مطلقة، ويمكن لابنه أن يسبب فسادا كهذا، وتعد السعودية هي المملكة الأخيرة التي لا يوجد فيها أي مظهر للشورى.

ومن خلال دعوة الملك إلى إقالة ابنه أو تقديمه للمحاكمة بتهمة قتل "خاشقجي"، كما يلمح تقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية ومن قبله دعوات الرئيس التركي، يبدو أن العالم قد "عبر خطا أحمر" على حد تعبير وزير الخارجية السعودي "عادل الجبير".

ومن غير المرجح أن يستجيب الملك لمثل هذه الدعوات غير الواقعية، وإذا كان من الممكن حدوث هذا، فإنه يتطلب تغييرا سياسيا حقيقيا.

وبالنظر إلى ندرة الأمراء المؤهلين وذوي الخبرة، ينبغي إخضاع المرشح لخلافة الملك لعملية تدقيق من قبل جمعية وطنية منتخبة، على غرار الكويت.

وفي حين أن هذا أبعد ما يكون عن الحدوث، على الأقل يمكن للجمعية التصويت على الخليفة المحتمل في عملية ديمقراطية محدودة.

ثمن باهظ

ومن الواضح أن الملك، الذي بلغ أواخر الثمانينات من عمره، قد اختار الشخص الخطأ لوظيفة ولي العهد، وقد دفع هو وبقية أفراد العائلة المالكة ثمنا باهظا لغطرسة "بن سلمان" وسلوكه المتقلب.

ولم تبلغ سمعة المملكة في الخارج مثل هذا القدر من السوء من قبل، ويمكننا أن نفترض بثقة أن قتل "خاشقجي" كان أزمة لم يسبق لها مثيل، تعكس الحكم السيئ والفوضوي والإدارة المرتبكة للأزمات.

وتشهد الروايات السعودية المتعددة التي صدرت بعد القتل على الارتباك والمحاولات الخرقاء للتغطية على تفاصيل القتل، وإعفاء القيادة العليا من أي مسؤولية، ولم تكن هذه الروايات بالتأكيد نتيجة تحقيقات شفافة أو صادقة في جريمة سياسية.

وتتزعزع مصداقية القيادة داخل البلاد أيضا، وتعكس جولة الملك "سلمان" الأخيرة في مختلف مناطق المملكة الرغبة في إعادة الإيمان بالملكية، وإظهار مصداقيتها، في الوقت الذي تسبب فيه نجله في فضيحة عالمية.

ولن تكون تلك الجولة كاملة بدون وعود بالمشروعات والمكافآت إلى المحافظات النائية، التي يبدو أنها قد تم نسيانها في الوقت الذي تركز فيه كل الجهود الملكية على تعزيز نفوذ "بن سلمان"، لكن يبدو أن الملك "سلمان" يحاول منع الانفجار الداخلي.

وبالإضافة إلى دعم والده الكامل، لا يزال "بن سلمان" بحاجة إلى اعتراف إقليمي ودولي، ومن ثم، فإن زيارته إلى أبوظبي والبحرين ومصر، ثم ظهوره المرتقب في اجتماع مجموعة العشرين في الأرجنتين، سيرسل رسالة بأنه ممثل موثوق على الساحة الدولية.

ولم يكن هذا ليحدث لو لم يتلق "بن سلمان" الدعم الكامل من الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، الذي رفض مؤخرا تقرير وكالة الاستخبارات المركزية حول تورط "بن سلمان" في القتل، وأكد تأييده الكامل لولي العهد السعودي.

وقد ذكر "ترامب" مزيجا من الاعتبارات الاقتصادية والجيوستراتيجية كمبرر لاستمرار دعمه للأمير الشاب، وبالإضافة إلى استثمارات بقيمة 450 مليار دولار وعد بها "بن سلمان"، أشار "ترامب" إلى محورية المملكة في محاربة الإرهاب واحتواء إيران وتحقيق السلام مع (إسرائيل).

ومع غياب الضغط الملكي، وضعف المجتمع السعودي، وصمت المجتمع الدولي، وقبل كل شيء استعداد الولايات المتحدة لغض الطرف عن قتل "خاشقجي"، يبدو "بن سلمان" آمنا في منصبه في الوقت الراهن.

ولأنه من غير المحتمل أن يقوض الملك سيطرة ابنه على البلاد في المستقبل القريب، فإن التحدي الحقيقي قد لا يظهر إلا عندما يرحل الملك.