ملفات » قضية جمال خاشقجي

عباءة الملك تزكّي ابن سلمان والهدف..

في 2019/04/05

مبارك الفقيه- خاص راصد الخليج-

كانت الجزائر المحطة الأخيرة في جولة الزيارات الخارجية التي أجراها ولي العهد محمد بن سلمان على الدول العربية، قبل وبعد مشاركته في قمة مجموعة العشرين التي أقيمت مطلع ديسمبر/ كانون الأول 2018 في بوينس أيرس، ولم تتجاوز الزيارة بضع ساعات اعتذر فيها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن لقاء ابن سلمان بحجة إصابته بالأنفلونزا؛ وكان مقرّراً أن تشمل جولته الأردن حيث يلتقي الملك عبد الله الثاني، ولكن الأخير اعتذر بسبب التزامه بحضور مراسم دفن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، وانحرفت الطائرة الملكية باتجاه منطقة الجزيرة العربية، ومنذ الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 2018 لم يرَ أحد ولي العهد، وكأنه لم يعد إلى المملكة، فاحتفى ظهوره كما اختفت أخباره ونشاطاته وزياراته ولم تذكر وسائل الإعلام السعودية على اختلافها أي شأن متعلق به، وكأن الرجل قد اختفى.

تزامن هذا التطوّر آنذاك مع ارتفاع الحماوة في ملف جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، وتصاعد المطالبات الدولية بملاحقة ابن سلمان وتحميله مسؤولية الوقوف وراء هذه الجريمة، في وقت انتشرت أخبار توحي وكأن هناك أجواء مضطربة داخل الأسرة الحاكمة وفي الشارع السعودي على حد سواء، وأن هناك مخاوف من حصول انقلاب أو تحرّك يفضي إلى اعتقال ابن سلمان حال وصوله إلى البلاد ومحاسبته على الأخطاء التي ارتكبها في كثير من الملفات الداخلية والخارجية، التي أثّرت سلباً على صورة وسمعة المملكة، ولا سيما التي أدت إلى ضرب وحدة النسيج الخليجي وتوتير العلاقات السعودية - الأوروبية على خلفية اختطاف رئيس حكومة لبنان سعد الحريري وتوتير العلاقات مع كندا بما استجرّ مواقف مندّدة عالمياً، وكل ذلك ينزع عنه صفة الأهلية في استمرارية كونه ولياً للعهد، ففضّل البقاء خارجاً ريثما يطمئن إلى استتباب الوضع بما يسمح بعودته، وعدم المغامرة بالمواجهة التي قد تقود إلى غليان داخلي وحالة عدم استقرار مما يزيد الأمر سوءاً ويفتح الأبواب أمام احتمالات وسيناريوهات خطيرة.

وشيئاً فشيئاً بدأ الأمير الشاب بالظهور التدريجي الخجول وفي مناسبات كان الملك سلمان الحاضر الرئيسي فيها، أما الابن فيظهر على هامش الصورة مشاركاً كالتابع المطيع، وهو ما فتح شهية صحيفة "الغارديان" البريطانية إلى نشر ثلاثة تقارير خلال شهر آذار / مارس تؤكد فيها نقلاً عن مصادر قريبة من العائلة المالكة وجود مؤشرات على توسّع الصدع بين الملك وابنه بسبب خلافات تتعمّق يوماً بعد يوم على ملفات رئيسية تواجه البلاد ومن بينها الحرب على اليمن، وكشفت الصحيفة عن تحذيرات تلقّاها الملك بوجود خطّة خطرة محتملة ضده، ما دفع به إلى اتخاذ إجراءات استثنائية ولا سيما خلال زيارة أجراها إلى القاهرة في شباط / فبراير الفائت، حيث تم تغيير الطاقم الأمني المولج حمايته والاستغاء عن العناصر التي تدين بالولاء لولي العهد، واعتبرت الغارديان أن الصدع بدا واضحاً عندما غاب ابن سلمان عن استقبال والده بعد عودته من زيارته لمصر، فضلاً عن تغيّبه عن سلسلة من اجتماعات حكومية ولقاءات رسمية مهمّة، في ظل حديث عن تجريده من بعض سلطاته المالية والاقتصادية وفي المجالات الاستثمارية.

ما تم ذكره من وقائع عن انكفاء نسبي لولي العهد عن تصدّر المشهد السياسي السعودي داخلياً وخارجياً وبروز شخص الملك سلمان في الفترة الأخيرة، هو أمر واضح وأكيد وتدعمه الشواهد والوقائع، وآخرها ترؤس الملك الوفد السعودي ومشاركته في مؤتمر الجامعة العربية الذي انعقد مؤخراً في تونس، وبقاء ابنه في السعودية لإدارة شؤون البلاد، ولكن هذا الواقع لا يعني بالضرورة أنه قطعٌ لأيادي وتشذيبٌ لأصابع ابن سلمان عن الحكم، بل هو نوع من الاستيعاب النفسي لحركة الاعتراضات وحالة عدم المقبولية التي نشأت ضد ابن سلمان، وشكل من أشكال الالتفاف السياسي والاجتماعي على الصورة السلبية التي التصقت بولي العهد، وهو ما يحتم تراجع الأمير الشاب إلى الصف الخلفي ليتصدّر الملك سنام الحكم - وهي وظيفته الأساسية ودوره الأصلي - بما يؤدي إلى تلافي استفزاز الجهات المعارضة والتخفيف من حدة الضغوط الدولية على الرياض ولا سيما الأمريكية منها.

وعليه فإن تقارير "الغارديان"، وعلى الرغم من ظاهرها السلبي، تصبّ في مصلحة السعودية وابن سلمان وليس ضدّه، فهي تتحدث عن إجراءات عقابية وتدابير، في ظلّ حكم ونظام ملكي فرداني، تطال ولي العهد الذي يمثّل الموقع الثاني في المملكة، أي أن هذا النظام يعطي الدليل على اعتماده سبيل الإصلاح السياسي والإداري في البلاد بدءاً من أعلى الهرم؛ ولكن يجب عدم الاطمئنان أو الركون إلى هذا الفهم، فليس المطلوب سعودياً تهشيم صورة ابن سلمان الذي تم تنصيبه إعلامياً ودعائياً حاكماً لخمسين سنة مقبلة، بل تصويره حالياً على أنه تحت عباءة الملك، وأنه يقوم بواجباته المحدّدة كولي عهد ونائب لرئيس مجلس الوزراء ووزير للدفاع فضلاً عن متابعته الشؤون السياسية والأمنية والاقتصادية والتنموية، وليس المطلوب كسر هيبته وشخصيته المؤهلة للحكم بل تأكيد موقعه كخلف مؤهل وطبيعي للملك، ولذا يحرص الإعلام السعودي مؤخراً على إبراز وجود ابن سلمان برفقة والده في كل المناسبات، والحرص على نشر الأخبار المتعلقة بنشاطاته وتحركاته وزياراته الداخلية في أكثر من مناسبة ومجال، مهما كان هذا النشاط مهماً أو هامشياً على حد سواء.

إنه إذاً توزع أدوار في لعبة إعلامية - دعائية، روتينية العناصر ومكشوفة الفصول، وبطلاها الملك وابنه ولي العهد، ولا يمكننا الجزم بوجود انقسام أو خلاف جوهري بين الرجلين، فحتى مع وجود اختلاف في الآراء ظاهراً، إلا أن ذلك لم ولا يصل إلى حدود التباين الذي يدفع الملك إلى إقصاء ابنه الطموح، وهو الذي أقصى كل ما ومَن حوله لتعبيد الطريق أمام تسلّمه للسلطة المطلقة في السعودية، ويبدو أن الأمور تسير حتى الآن بحسب ما اتفق عليه الرجلان ورسمه ابن سلمان نفسه ويطبقه والده الثمانيني في تنسيق تام يصل إلى حد التلاحم بينهما، وهو الذي كان ولا يزال وسيبقى يؤمن الغطاء الرسمي ويسبغ الشرعية الملكية على أي ثوب يرتديه ابنه، وحتى لو اتّسخ هذا الثوب بسقطة سياسية أو إجراء غوغائي هنا أو بملف جنائي أو إثارة أزمة إقليمية أو دولية هناك، فمحمد ابن سلمان لا يعكس هوية ابن الملك بقدر ما يختزن هوية مشروع يأخذ عناوين إنمائية - اقتصادية، ولكنه يختزن أهدافاً سياسية وجودية واستراتيجية، ولا يقف عند حدود المملكة السعودية، بل يتسّع ليشمل كل المنطقة، ولن يكون هناك أفضل من ابن سلمان والسعودية لتأمين المظلة اللازمة لهذا المشروع.