الخليج الجديد-
أثار مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" غضبا عالميا، وليس القتل وحده مصدر هذا المأزق، إنما إخفاء جثة الضحية وتغيّر الرواية الرسمية من الإنكار إلى الإقرار، ومن الشجار إلى الخنق، قبل الاعتراف بالتخطيط المسبق لارتكاب الجريمة.
ويمكن القول إن فريق اغتيال "خاشقجي" نجح في تنفيذ العملية، وهو الجانب الأسهل، وفشل في التَّستُّر وإخفاء الأدلة، وهو الجانِب الأكثر تعقيدا.
وكان لافتا، حجم المماطلة التي مارستها الرياض للكشف عن تفاصيل الجريمة؛ فبعد أن أنكرت الجريمة لثمانية عشر يوما اعترفت بها بـ4 روايات مختلفة، كما عملت على استعادة جميع أطراف الجريمة بمن فيهم القنصل الذي كان شاهدا على تفاصيل جريمة الاغتيال، تبعها إرسال لفريق تحقيق سعودي، ثم إرسال النائب العام السعودي إلى تركيا.
ولاحقا، جرى اعتقال 18 شخصا من المُتوَرطين في هذه الجريمة، وفصل 5 آخرين أبرزهم نائب رئيس المخابرات اللواء "أحمد عسيري"، و"سعود القحطاني"، المستشار الإعلامي المقرب جدا للأمير "محمد بن سلمان"، ورئيس أركان جيشه الإلكتروني، في محاولة للبحث عن كبش فداء، وتحويل الأنظار عن الشَخص المسؤول عَن هَذهِ الجَريمة، أي ولي العهد السعودي.
ولا يمكن أن يقدم "عسيري" على هذه الجريمة، وإعداد فصولها واختيار المشاركين فيها، دون أوامر من "بن سلمان"، وأكد هذه الحقيقة "القحطاني"، في "تغريدة الوداع" عبر حسابه على "تويتر"، من أنه لا يفعل أي شيء إلا تنفيذا لأوامر الملك وولي العهد.
ويعتبر اغتيال "خاشقجي" القشة التي قصمت ظهر البعير؛ حيث يمثل الحلقة الأخيرة من حلقات حيرة وصدمة وخيبة أمل غربية من قرارات خارجية وداخلية اتخذتها القيادة السعودية الجديدة؛ كالحصار المفروض على دولة قطر، والحرب في اليمن، والأزمات الدبلوماسية مع 3 دول غربية واحتجاز ناشطات وناشطين سعوديين.
لم يؤيد الغرب واحدا من هذه الإجراءات السعودية بل فضل في البداية عدم التحدث عنها لاعتبارات سياسية واقتصادية واستراتيجية، لكن بلغ السيل الزبى حينما قُتل "خاشقجي" داخل قنصلية بلاده فتحركت جهات في أوروبا وأمريكا ضد السعودية.
وبدت السعودية غير مهتمة بردود الفعل الدولية، بينما ركزت جهودها على دولة رئيسية هي الولايات المتحدة؛ حيث راهنت على أن وجود الرئيس "دونالد ترامب" في البيت الأبيض وعقليته التجارية ستمكن الرياض من عقد صفقة معه للخروج من الأزمة.
وتعتبر علاقات "بن سلمان" بمستشار البيت الأبيض "جاريد كوشنر"، فضلا عن صفقات السلاح، سببا رئيسا وراء موقف الرئيس الأمريكي الداعم للسعودية رغم السخط الدولي.
"كوشنر"، وهو صهر "ترامب"، ينظر إلى ولي العهد السعودي على أنه شخصية أساسية في إطار الجهود الرامية للتوصل إلى اتفاق سلام بين (إسرائيل) والفلسطينيين أو ما يعرف بـ(صفقة القرن).
كما تنظر إدارة "ترامب"إلى "بن سلمان" على أنه ساهم في تغيير رد الفعل السعودي تجاه قرار "ترامب" بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس العام الماضي. وعلاوة على ذلك، ينظر "ترامب" إلى السعودية على أنها سوق مهم للسلاح الأمريكي.
موقف "ترامب" من قضية "خاشقجي" يشير بشكل لا غبار عليه إلى أنه يستثمر في وريث العرش السعودي الشاب الذي أصبح نقطة ارتكاز لاستراتيجية الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط، بدءا من إيران، وصولا إلى عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية.
يمكن القول إن الاستراتيجية السعودية للتعامل مع أزمة "خاشقجي" تمثلت في الفترة الأولى في المماطلة، ثم تركزت على إطالة أمد القضية ليطويها النسيان، خاصة مع تفجر العديد من الأزمات والملفات إقليميا ودوليا، ويمكن خلال تلك الفترة إجراء بعض التغييرات فيما يخص الطاقم الذي يدير المملكة مع "بن سلمان" لطمأنة الفاعلين الإقليميين والدوليين أنه لن يجري تكرار هذه الأخطاء الحمقاء.
ويبدو أن خطة ولي العهد السعودي تتمثل في الهروب من إرث جريمة "خاشقجي" من خلال التحرك السريع في محاكمة أعضاء فريق القتل السعودي، المتهمين بتنفيذ الجريمة في قنصلية الرياض بإسطنبول، حتى يتم الانتهاء من الإجراءات القضائية قبل أن تدخل الحملة الرئاسية الأمريكية المراحل الساخنة.
الجزء الثاني من استراتيجية "بن سلمان" تتمثل في إغلاق القضية بطريقة مختلفة عبر إقناع أفراد عائلة "خاشقجي" بقبول الدية والتخلي عن حثهم بالقصاص؛ حيث تشير تقارير إلى أنه تم بالفعل منح أفراد بالعائلة 10 آلاف دولار شهريا ومنازل تقدر قيمتها بملايين الدولارات على سبيل التعويض.
ومن الممكن أن تنجح خطة ولي العهد في تجاوز أزمة مقتل "خاشقجي"، لكنها في الوقت ذاته تواجه عدة عقبات؛ حيث لن تتمتع أي محاكمة تُجرى في السعودية بمصداقية تذكر، بسبب سجل محاكمها المشهود له بالاعتماد فقط على الأدلة المستندة إلى اعترافات كاذبة انتزعت تحت التعذيب وتهديدات بالإعدام.
كما أن هناك عقبة أخرى أمام المملكة، في محاولتها لاستعادة صورتها، وهي أن قضية "خاشقجي" نشطت موجة جديدة من الانتقادات من قبل أصدقاء سابقين، كوصف السيناتور الجمهوري "ماركو روبيو" ولي العهد السعودي بأنه زعيم عصابة. هذا فضلا عن صلابة الموقف التركي الذي يبدو مصمما على إحقاق العدالة في هذه القضية.
في الواقع وحتى بعد مرور نحو عام على مقتل "خاشقجي"، لا تزال جميع المؤسسات الأمنية تخضع مباشرة لسلطات ولي العهد، إضافة إلى وزارة الدفاع وما يشبه السلطة المطلقة على الحرس الوطني الذي يُنظر إليه على أنه بمثابة الجهاز الأمني الداخلي المسؤول أمنيا وعسكريا عن القصر الملكي، وتمّ تسليم مسؤوليته في التعديلات الوزارية الأخيرة للأمير الشاب "عبدالله بن بندر بن عبدالعزيز"، المقرب من ولي العهد.
ولا توجد للآن أية إشارات يمكن أن تقود إلى "فرضية" استبدال "بن سلمان" على المنظور القريب، لكن يمكن للدعم المستمر وزيادة صلاحيات ولي العهد بدعم مباشر من الملك السعودي أن تخلق حالة من عدم الاطمئنان داخل الأسرة الحاكمة، المعنية بالحفاظ على نظام الحكم القائم.
ومن شأن هذا أن يدفع باتجاه ممارسة بعض الضغوط (نصائح) على الملك لتدارك تبعات مقتل "خاشقجي"، وحرب اليمن، خاصة بعد بدء الكونغرس الأمريكي رسميا إجراءات عزل "ترامب" الذي ساهم في عدم تحميل ولي العهد مسؤولية جريمة قتل "خاشقجي".
وقد تدفع العاصفة التي تواجه "ترامب" داخليا نحو إجراءات سعودية يتبناها الملك "سلمان بن عبدالعزيز" تفضي إما للحد من صلاحيات ولي العهد وتقليص سلطاته في مركز القرار، أو استبداله دون أن يؤدي إلى زعزعة الأوضاع الداخلية في المملكة.
وسيؤدي أي تراجع محتمل خلال الفترة المقبلة في علاقات السعودية مع الولايات المتحدة إلى تحجيم الدور الإقليمي والدولي الذي ظلت المملكة تلعبه من واقع الثقل الذي تشكله في سوق النفط العالمية ومكانتها الدينية لدى مسلمي العالم والشراكة مع الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب ومواجهة التهديدات الإيرانية في المنطقة.
يعني ذلك أن إعادة ضبط العلاقات الأمريكية السعودية على أسس أكثر صدقا أصبح أمرا عاجلا الآن، مع تزايد خطر الصراع الإقليمي، في الوقت الذي تستشعر فيه المؤسسات الأمريكية الحرج من دعم أمير يتستر على جريمة قتل بشعة تنتمي إلى العصور الوسطى.