الخليج الجديد-
منذ اليوم الأول لاختفاء الصحفي السعودي البارز "جمال خاشقجي"، حرصت السلطات التركية على متابعة القضية بإمكاناتها الأمنية والاستخباراتية الخاصة، مع تسريب معلومات حساسة بين الحين والآخر بطريقة وصفها مراقبون بـ"الذكية" من أجل ضمان حشد المجتمع الدولي إلى جانبها وإبقاء القضية حية.
وكان واضحا أن السلطات التركية علمت كل شيء بشأن ما حدث لـ"خاشقجي" وبأدق التفصيلات، لكن كانت العقلانية والواقعية هي التي تحكم ردة فعل الدولة التركية على أعلى المستويات، والتي استخدمت أسلوب الجرعات في الإعلان عن تفاصيل المعلومات المتوفرة.
وكانت سياسة الجرعات المتدرجة من المعلومات الصادمة حول مقتل "خاشقجي" تمثل ضغطا رهيبا ليس على السلطات السعودية وحدها، التي التزمت الصمت في البداية والقول خلافا للحقيقة، لكن أيضا على الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" الذي واجه حشدا للرأي العام الأمريكي لم يواجهه من قبل.
واعتمدت الدولة التركية في التعامل مع قضية اغتيال "خاشقجي" على 3 مسارات هي: المسار الاستخباراتي وهو مسار متقدم، والمسار القضائي الذي لا يزال متعثرا، وهناك المسار السياسي الذي يكتنفه كثير من الغموض.
وتمتلك تركيا عدة أوراق قوية كي تُبقي القضية حية، وتأخذها إلى المسار القانوني والسياسي الذي يتناسب معها. أهم هذه الأوراق هي الأدلة على القتل المدبر.
وتفيد مصادر تركية بأن بعض هذه الأدلة التي بحوزة أنقرة تم كشفها، وبعضها الآخر لم يعلن عنه، لكن ما تم كشفه لبعض الدول المعنية بالجريمة، مثل الولايات المتحدة، يكفي وحده من أجل إدانة السعودية على أعلى المستويات، وبشخص ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان".
وتقول المصادر إن التسجيلات الخاصة بتصفية "خاشقجي" في القنصلية تتضمن تفاصيل حول دور "بن سلمان" وبالاسم، وتؤكد تسريبات أن هناك مكالمات من قبل بعض المنفذين تمت مع فريق "بن سلمان" للتنسيق حول إخراج الجريمة، وتم اعتراضها وتسجيلها من قبل الأجهزة التركية.
الورقة الأخرى هي التحقيق الدولي، ويمكن لتركيا أن تستخدم هذه الورقة من خلال طلب لجنة تحقيق دولية خاصة، سواء عن طريق الأمم المتحدة، أو محكمة الجنايات الدولية، أو لجنة خاصة، وهذا أمر قد يلقى صدى لدى بعض الدول الأوروبية، خصوصاً ألمانيا وفرنسا.
وقد استفادت تركيا كثيرا من الإعلام الدولي الضاغط ضد السعودية، الذي يبدي قدرا عاليا من التضامن مع قضية "خاشقجي" بوصفه صحفي رأي تعرّض للقتل بسبب كتاباته.
وتشارك صحيفة "واشنطن بوست" بدور أساسي في ذلك، وهي على رأس الحملة الإعلامية الدولية للكشف عن حقيقة القضية، وتمكّنت من خلق رأي عام له تأثيره داخل الإدارة الأمريكية وعلى الصعيد الدولي.
كما استطاعت تركيا أن تحقق تقدما في الموقف الحقوقي الدولي الذي تمثّله المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان؛ فقد حركت تركيا هذه الورقة بقوة، وساندتها في ذلك منظّمات مثل "العفو" و"هيومن رايتس ووتش"، وهيئات واتحادات الصحافة الدولية التي سبق لها أن دانت الموقف السعودي، وشكلت ما يشبه الظهير لأي موقف يدفع القضية إلى المحاكم الدولية من أجل الاقتصاص من الجناة.
أظهرت سياسة أنقرة حيال قضية "خاشقجي" أنها لا تريد أن يظهر الأمر على أنه ندية بين تركيا والسعودية؛ فالعلاقات بينهما بالغة الأهمية، على الرغم من تعكر صفوها بالفعل، وانهيارها في هذه المرحلة. وقد حاول الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" حث الملك "سلمان بن عبدالعزيز" على التحرك دون أن يستهدفه بشكل مباشر.
وتركز هدف تركيا في الفترة الأولى على استغلال قضية "خاشقجي" لتقليص دور "بن سلمان"، الذي وصفه مقال في صحيفة موالية لحكومة أنقرة بأنه "عدو تركيا"؛ نظرا لعلاقته الوطيدة بولي عهد أبوظبي "محمد بن زايد".
بيد أن استراتيجية "أردوغان" تعد محفوفة بالمخاطر. إذ أن الضغط على "بن سلمان"، صاحب النفوذ القوي حتى الآن، قد تعني أن حاكم السعودية المقبل رجل يكن ضغينة كبيرة لتركيا قد تستمر لسنوات طويلة.
وقللت التبعات الدبلوماسية لمقتل "خاشقجي" من تدفق السياح السعوديين إلى تركيا وسط تعالي الأصوات الداعية لمقاطعة البلاد ردا على انتقاداتها شديدة اللهجة إلى المسؤولين في المملكة.
ورغم أن العلاقات بين القوتين السنيتين تتميز منذ وقت طويل بمنافسة واسعة، إلا أن مئات آلاف السياح السعوديين يتدفقون سنويا إلى تركيا بفضل مناخها المعتدل وتراثها التاريخي وصفتها كـ"حد بين الشرق والغرب"؛ ما يشكل جزءا مهما من إيرادات الاقتصاد التركي.
وحسب "مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية"، يبلغ متوسط إنفاق السائح السعودي في تركيا 500 دولار، وهو أكثر بكثير من هذا المعدل لدى الزوار الأوروبيين. كما تعتبر السعودية من أبرز مشتري العقارات في تركيا، وأحد أكبر المستثمرين في هذا المجال.
لكن التوتر تسبب في انطلاق حملة واسعة في السعودية، بمشاركة ناشطين كثيرين ووسائل إعلام مقربة من الحكومة، تدعو إلى مقاطعة تركيا وعدم السفر إليها وشراء العقارات فيها، محذرة من المخاطر الأمنية التي قد يواجهها السعوديون في هذا البلد.
وفي الأشهر الأخيرة بدأ هذا الحراك يحمل طابعا دبلوماسيا رسميا أيضا؛ حيث أصدرت البعثات السعودية في تركيا تحذيرات وتنبيهات عدة لمواطني المملكة الموجودين في الأراضي التركية، تحدثت عن حالات سرقة جوازات سفر ومخاطر من الاستثمار في العقارات وجرائم صغيرة أخرى.
كما انضم إلى هذه الحملة بعض المسؤولين السعوديين، بينهم رئيس مجلس إدارة غرفة الصناعة والتجارة في الرياض "عجلان العجلان"، الذي قال عبر "تويتر" يوم 29 مايو/أيار الماضي: "الخطابات والحملات العدائية المنظمة التي تتبناها الحكومة التركية ضد المملكة، أصبحت واضحة للجميع. اليوم أقولها بكل صراحة: الحكومة التركية الحالية بقيادة أردوغان هي عدو للمملكة وقيادتها وشعبها، وأي استثمار أو سياحة في تركيا هو دعم لهذا العدو".
هذه تحركات أدت إلى نتائج ملموسة؛ حيث ذكرت وزارة السياحة التركية، مؤخرا، حسبما نقلته وكالة "فرانس برس"، أن عدد الزوار الذين يتدفقون إلى تركيا من السعودية شهد خلال الأشهر الـ5 الأولى من 2019 هبوطا حادا بلغ 30% مقارنة بالفترة ذاتها في 2018، وهو الرقم الذي أكدته للوكالة شركة سياحية في الرياض.
فيما نقلت السعودية المعركة إلى ميدان جديد؛ حين قام وزير الخارجية السعودي "إبراهيم العساف" بزيارة إلى قبرص الرومية منتصف الشهر الماضي؛ لدعم ما سماها "مشروعية قبرص وسيادتها"، في إشارة إلى الخلاف بين تركيا وقبرص الرومية بشأن مستقبل الجزيرة المقسمة والتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.
وحتى الآن، سمحت الإدارة المعقّدة للملف بإظهار تركيا بمظهر الدولة المسؤولة والقادرة، كما سمح لها باستعراض قدراتها الأمنية والقضائية والسياسية، لكن ذلك لم يكن كافيا بحد ذاته لتحقيق أهداف أنقرة حتى الآن.
وقد يكون من غير المجدي لأنقرة أن تستمر في تكتيك النفس الطويل، فوحده امتلاكها لأدلة نوعية غير تقليدية قد يحقق لتركيا أهدافها، ويقطع الطريق على محاولة "بن سلمان" ترميم صورته، وينقذ القضية من طي النسيان.