ستراتفور -
انقضت النسخة الثالثة من مؤتمر "مستقبل الاستثمار" في السعودية؛ حيث تم توقيع 20 مليار دولار من الصفقات الجديدة. ورغم أن المؤتمر خفف المخاوف من صدور عقوبات أمريكية بسبب سجل حقوق الإنسان المتردي في المملكة، إلا أن المستثمرين لا يزالون يزنون إيجابيات وسلبيات ضخ الأموال في بلد لا تعد العائدات فيه مضمونة. ولا يزال المستثمرون حذرين من المخاطر الجيوسياسية الكبرى، مثل الحرب مع إيران، أو غضبة أخرى لأجل حقوق الإنسان قد تشعل عزلة دولية للمملكة، فضلا عن الاعتبارات المحلية، مثل طريقة تعامل المملكة مع انخفاض أسعار النفط والسياسات الشخصية لولي العهد "محمد بن سلمان". وستؤدي مثل هذه العوامل في النهاية إلى إضعاف استراتيجية الاستثمار السعودية، وتجعل من الصعب تحقيق أهداف مسيرة الأعوام العشر المنتظرة نحو "رؤية 2030".
عامل "خاشقجي"
وفي العام الماضي، لم يكن المستثمرون والشركات يعرفون ما إذا كانت الولايات المتحدة ستفرض عقوبات على المملكة بسبب مقتل "جمال خاشقجي" في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018. ومع تعرض الرياض لأسهم الإدانة الدولية، لم يقبل سوى القليل منهم دعوة المملكة لحضور مبادرة "مستقبل الاستثمار" الثانية، بعد 3 أسابيع فقط من مقتل الصحفي المعارض. ومع تطور القضية عام 2019، ذهبت بعض الشركات إلى حد الانسحاب من صناديق الاستثمار السعودية، بينما انتظرت شركات أخرى لمعرفة ما إذا كان الغضب السياسي في الولايات المتحدة سيترجم إلى خطوات عقابية أم لا.
ووقف البيت الأبيض بحزم ضد العقوبات التي سعى لها الكونجرس؛ خشية أن يفقد عقود الأسلحة المربحة مع المملكة لصالح روسيا والصين. وفي البداية، اعترض البيت الأبيض على محاولات إنهاء الدعم الأمريكي للسعودية في حرب اليمن باستخدام حق النقض. ولاحقا، في مايو/أيار 2019، استخدم الرئيس "دونالد ترامب" إعلان الطوارئ لتمرير 8.1 مليارات دولار من مبيعات الأسلحة إلى المملكة وحليفتها، الإمارات، وكذلك الأردن، محتجا بتهديد إيران المتصور. وفي النهاية، كانت إشارة البيت الأبيض واضحة وهي أنه سيحبط أي محاولات من الكونجرس لمعاقبة المملكة، في حين لا توجد أغلبية ساحقة في الكونجرس لتجاوز حق النقض.
وترك موقف إدارة "ترامب" المستثمرين حائرين في تفسير مخاطر التعامل مع المملكة وحدهم. وقرر البعض سحب أمواله من السعودية، مثل وكالة "إنديفور" للمواهب في هوليوود، التي أعادت 400 مليون دولار من الاستثمارات في السعودية. أما شركات أخرى، مثل "أمازون"، فقد توقفت عن متابعة الصفقات المتفق عليها. وابتعدت هذه الشركات إلى حد كبير عن "مبادرة مستقبل الاستثمار" لهذا العام، لكن الحدث لم يخلُ من أسماء كبيرة من القطاع المالي، مثل "سوفت بنك" و"بنك أوف أمريكا" و"جي بي مورجان"، في حين كانت صناديق الثروة السيادية من الكويت وروسيا والإمارات حاضرة أيضا. وبالنسبة لأولئك الذين حضروا، كان من الواضح أن مخاطر السمعة لم تعد تهمهم كما كان الحال في عام 2018. ولا يعني هذا أن سمعتهم لن تتضرر بالعمل مع الرياض، لكن هذا يعني أنهم يعرفون الآن المخاطر، ويعتقدون أنه يمكنهم تحمل أي ضرر لعلاماتهم التجارية نتيجة مثل هذا التعامل.
عدم اليقين
لكن على الرغم من أن المستثمرين يمكنهم الآن إدارة المخاطر المتعلقة بالسمعة في التعامل مع المملكة، إلا أن الكثيرين منهم ليسوا على استعداد لشراء استراتيجية الاستثمار التي تروج لها "رؤية 2030"، ويرجع ذلك لعدة أسباب. أولا، بلغت التوترات مع إيران أعلى مستوياتها على الإطلاق، وأظهرت طهران أنها مستعدة لمضايقة ناقلات النفط بالقرب من المملكة، والأهم من ذلك ضرب البنية التحتية للنفط داخل السعودية نفسها.
وفي حين منعت الرياض نفسها من الانتقام الذي قد يشعل صراعا أوسع، لكنها ليست من يقود مسار الصراع مع إيران. ويمكن للولايات المتحدة، على سبيل المثال، أن ترد على أي ضربة إيرانية أخرى ضد المملكة، سواء بموافقة السعودية أو بدونها. وبما أن إيران تقلل من التزاماتها تجاه الاتفاق النووي، أو خطة العمل الشاملة المشتركة، يمكن لـ(إسرائيل) أن تختار ضرب المنشآت النووية الإيرانية لمنع حدوث تكافؤ نووي. وفي مثل هذه الحالة، ليس هناك ما يضمن أن طهران لن تنتقم من الرياض، حليف (إسرائيل)، ردا على ذلك.
ثانيا، تكافح المملكة لتنفيذ بعض أهداف "رؤية 2030"، وخاصة المقترحات الأكثر تطرفا في المشروع؛ بسبب انخفاض أسعار النفط ونمط الحياة المترف للمواطنين السعوديين. ونظرا لأن المملكة تعطي الأولوية للاستقرار الاجتماعي في البلاد، فمن المحتمل أن تبتعد عن المشروعات طويلة الأجل لصالح المزيد من الإنفاق الاجتماعي الفوري لإرضاء الجماهير. ومع ذلك، لا يعرف أحد تماما أي الأمور التي قد تمنحها المملكة الأولوية؛ ما يخلق مخاطر للمستثمرين الذين يبحثون عن رهانات مؤكدة ويقينية. وفي الواقع، تراجعت مشاريع أخرى في الماضي؛ فقد تسبب انهيار أسعار النفط في عام 2014، على سبيل المثال، في إلقاء عدد لا يحصى من المشاريع في غياهب النسيان.
ثالثا، من غير المؤكد ما إذا كانت جميع المشاريع التي تعرضها السعودية ستحقق العوائد التي تدعيها المملكة؛ فبالنظر إلى أن أسعار النفط المنخفضة تؤثر على الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، فإن البطالة السعودية لا تزال مرتفعة كثيرا، ولا يزال الطريق نحو تحويل الاقتصاد السعودي غير واضح. وتؤثر أسعار النفط المنخفضة، إلى جانب التهديدات باندلاع حرب مع إيران، بالفعل على قيمة الاكتتاب العام الأولي لشركة النفط العربية السعودية "أرامكو". ويعد الاكتتاب العام، الذي تأمل المملكة أن يولد ما يصل إلى 100 مليار دولار، وفق تقييم يصل إلى 2 تريليون دولار للشركة، رمزا للطموحات العالية للقيادة السعودية، لكنه يعبر في الوقت نفسه عن الحقائق الأكثر قسوة حول استراتيجية الاستثمار في البلاد.
وأخيرا، لا يوجد أي ضمان بأن المملكة، كدولة استبدادية، لن ترتكب عملا آخر يجلب لها الانتقادات الدولية، مثل قتل "خاشقجي". وفي حالة حدوث ذلك، قد تجد الرياض نفسها أمام عقوبات جديدة، ليس فقط من الولايات المتحدة، ولكن من أوروبا أيضا. ومن شأن هذا أن يدفع المستثمرين للتساؤل من جديد عما إذا كانت العقود التي يوقعونها اليوم قد تتأثر بالعقوبات غدا. وفي الوقت نفسه، قد تؤدي انتخابات الولايات المتحدة الرئاسية لعام 2020 إلى الإطاحة بالإدارة التي قامت بالكثير لحماية المملكة.
وكانت السعودية تمكنت من الإفلات من خطر فرض عقوبات أمريكية في الوقت الحالي، لكن هناك تحديات أخرى لا تزال قائمة، وأبرزها احتمال الحرب مع إيران، والافتقار إلى الوضوح بشأن أولويات الرياض نفسها. ومع بداية عام 2020، ستجد المملكة أن المستثمرين ما زالوا يتساءلون عن "رؤية 2030"، ولن يكون لديها دائما إجابات سهلة لتقديمها.