الخليج الجديد-
"أيها الملك نحن ندافع عنك، ولديك الكثير من المال، ويجب أن تدفع مقابل ذلك"..
هذا ما دار في مكالمة هاتفية حديثة بين الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" والعاهل السعودي الملك "سلمان بن عبدالعزيز"، وكشف عنه الأول في لقاء حاشد، 27 أبريل/نيسان الماضي؛ ما اعتبره مراقبون ملخصا لحصاد علاقة الولايات المتحدة بدول الخليج عموما، والسعودية خصوصا في 2019.
وجاء تصاعد التهديد الإيراني، عبر استهداف ناقلات نفط سعودية وإماراتية بمثابة الوقود لمزيد من الارتماء الخليجي بالحضن الأمريكي عسكريا، عبر بوابة صفقات السلاح من جانب، والسعي لتشكيل تحالف يضمن أمن الملاحة بمضيق هرمز والخليج من جانب آخر.
كما مثل تواصل فصول الأزمة الخليجية دافعا آخر لدول الخليج نحو مزيد من سباق التسلح، الذي يصب في معظمه بخزانة شركات التصنيع الأمريكية؛ الأمر الذي سجلته بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي.
وفي هذا الإطار، استغلت الولايات المتحدة قضية مقتل الصحفي السعودي "جمال خاشقجي"، الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست"، داخل مبنى القنصلية السعودية بإسطنبول، لتشكيل ضغط كبير على الساحة الدولية تجاه ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان"، واتجهت أصابع الاتهام إليه من وكالة المخابرات المركزية (CIA)، فيما حاول "ترامب" خلال تطرقه للجريمة لفت الانتباه إلى أهمية الدور الذي تلعبه السعودية، والإشارة إلى أنه إذا تمت تسوية الأمر وفق المصالح الأمريكية، فإن نظامه لا يتحرج من العمل مع "بن سلمان"، إذا كان سينتبه لتصرفاته لاحقا.
ابتزاز مالي
وسواء كان ذلك من قبيل توزيع الأدوار أو في إطار صراع حقيقي بين "ترامب" ودولة أمريكا العميقة؛ فالمؤكد أن الواقع أخضع السعودية لعملية ابتزاز سياسي ومالي، تلعب فيه المصروفات الدفاعية وصفقات الأسلحة دور الأيقونة، وهو ما كرر "ترامب" الإشارة إليه في تصريحات مفادها أن الخليج عموما والسعودية خصوصا مهمان للولايات المتحدة؛ نظرا لما يمثلانه من "مدفوعات مالية".
فواردات السلاح الأمريكي تمثل 61% من أسلحة السعودية، و58% من أسلحة الإمارات، و67% من أسلحة قطر، فيما تجاوز مجموع ما استوردته السعودية من الأسلحة من أمريكا منذ 1950، ما قيمته 90 مليار دولار، حسب تقرير لـ"واشنطن بوست".
وبالنظر إلى سياسات "ترامب"، يمكن القول بأنه يركز على تسديد المصروفات الدفاعية من قبل الدول الحليفة، إلى جانب اتخاذه سياسة هجومية في العلاقات الخارجية، وفقا لما أوردته دراسة للباحث في قسم الدراسات الإستراتيجية بجمعية البحوث والدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بإسطنبول "عبد الله أربغ".
لذا صرح وزير الخارجية التركي "مولود جاويش أوغلو"، في 3 فبراير/شباط الماضي، بأن "الدول الغربية التي تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان، تحاول التستر على جريمة قتل خاشقجي مقابل المال وصفقات السلاح".
من هنا جاءت حماسة السعودية لشراء سفن حربية أمريكية من طراز "Littoral Combat Ships LCSs"، رغم أن البحرية الأمريكية عانت فيما يتعلق بسمعتها السيئة وموثوقيتها (إمكانية الاعتماد عليها)، وتكاليفها، ونقص قوتها النارية.
وحصلت شركة "لوكهيد مارتن" الأمريكية على 450 مليون دولار هذا العام، مقابل تصميم طلبية واحدة للمملكة من هذه السفن ومعداتها طويلة المدى، وفقا لما أورده موقع "ناشونال إنترست"، في 4 أغسطس/آب الماضي.
صفقات عسكرية
وفي هذا الإطار، ذكر كبير الباحثين في معهد "بون" الدولي لدعم السلام؛ "ماكس موتشيللر"، في حوار مع شبكة "دويتشه فيله" الألمانية، أن "السعودية دولة لديها الكثير من المال؛ وبالتالي فإن تصنيفها من وجهة نظر صانع السلاح الأمريكي يتمثل في كونها عميل (زبون) جيد".
يصب هكذا تصنيف في صالح استراتيجية "ترامب" لأقصى استفاده مالية ممكنة من دول الخليج، من جانب، وإبعاد الزبائن المحتملين عن سوق الأسلحة الروسي والصيني من جانب آخر.
وفي مارس/آذار الماضي، ذكر معهد ستوكهولم أن السعودية تستورد 22% من مبيعات السلاح الأمريكية حول العالم.
وفي هذا الصدد، تشير "إيما سوبرير"، من منتدى الخليج الدولي، إلى أن إعلان بيع الولايات المتحدة نظام الدفاع الصاروخي "ثاد" إلى السعودية هذا العام جاء بعد موافقة المملكة على شراء أنظمة صواريخ أرض جو روسية، وأن إدارة "ترامب" تسعى لتسهيل تصدير الطائرات العسكرية الأمريكية بدون طيار، بما في ذلك إلى دول الخليج؛ لمنع الصين من أن تصبح رائدة في تصدير الطائرات المسلحة بدون طيار.
وأضافت أن الإمارات ستصبح أول دولة شرق أوسطية بعد (إسرائيل) تحصل على طائرة "إف-35"، التي تصادف أن الولايات المتحدة قامت بنشرها مؤخرا في البلاد، بعد إجراء محادثات العام الماضي مع وفد إماراتي زار (إسرائيل) لدراسة الجيل الخامس من الطائرات.
كانت وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت، في 25 مايو/أيار الماضي، أنها ستستكمل وبصورة فورية بيع 22 صفقة أسلحة قيد الانتظار إلى الأردن والإمارات والسعودية، والتي يبلغ مجموعها 8.1 مليارات دولار.
ورغم أن نسبة كبيرة من أعضاء الكونجرس الأمريكي صوتوا لصالح قرار إيقاف دعم السعودية العسكري، لكنهم فشلوا في إبطال فيتو "ترامب" ضد هذا القرار، مطلع يونيو/حزيران الماضي.
وبعد زيارة أمير دولة قطر الشيخ "تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني" الأخيرة لأمريكا (يوليو/تموز الماضي)، أعلنت واشنطن أن قيمة الصفقات الموقعة بين البلدين تقدر بـ185 مليار دولار، وذكر "ترامب" أن جزءا من هذه الصفقات سيكون في شكل واردات سلاح أمريكية.
قوات بالسعودية
وجاء قرار "ترامب" بإرسال قوات إضافية (أكثر من 3 آلاف جندي) إلى الشرق الأوسط، وتحديدا إلى السعودية، في إطار نهج إدارته لممارسة سياسة الضغط الأقصى ضد إيران من جانب، و"الحلب الأقصى" للبقرة الخليجية (حسب تعبيره في تجمع لمناصريه قبل انتخابه رئيسا) من جانب آخر، خاصة بعد الهجوم على منشأتين لشركة النفط السعودية العملاقة "أرامكو" شرقي المملكة، في 14 سبتمبر/أيلول الماضي.
واعتبر الباحث المصري في الشؤون الاستراتيجية وقضايا الأمن الدولي، "أنس القصاص"، أن التواجد العسكري الأمريكي في السعودية يستهدف مواجهة توسع النفوذ الإيراني في المنطقة، خاصة بعد إسقاط طهران لطائرة أمريكية مسيرة، في يونيو/حزيران الماضي، ثم احتجاز ناقلات نفط في مضيق هرمز (يعبر منه ثلث النفط الخام العالمي المنقول بحرًا).
واستشرف "القصاص" أن تلك القوات تمثل نواة اللتحالف الدولي العربي لتأمين الملاحة في مضيق هرمز، والحد من نفوذ طهران عليه، والذي تسعى واشنطن لتأسيسه بمشاركة خليجية غربية، وفقا لما أوردته وكالة الأناضول.
التحرك العسكري الأمريكي ناحية الخليج العربي يعزوه أستاذ العلاقات الدولية "طارق فهمي"، إلى سبب إضافي، وهو خشية واشنطن من انفراط عقد تحالفاتها في المنطقة لصالح روسيا.
ومنذ عامين، تتحدث الولايات المتحدة، عبر اجتماعات وبيانات، عن خطة لبناء تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي "MESA" (الناتو العربي)، للتصدي للنفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، ورفع القدرات القتالية والدفاعية للدول الشريكة.
وأعلنت السعودية، في 9 أبريل/نيسان الماضي، أنها استضافت اجتماعًا ضم الولايات المتحدة، الإمارات، البحرين، الكويت، سلطنة عمان، قطر والأردن، في إطار التحضير لإطلاق "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، ووصفت الاجتماع بالمهم.
وعلى منواله الثابت، وظف "ترامب" الترحيب السعودي باتجاه مزيد من الاستفادة المالية للولايات المتحدة، وأعلن في 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن المملكة وافقت على أن تدفع مقابل كل ما سترسله بلاده من قوات وما تقوم به من خدمات لمساعدتها.
استثمارات السندات
لكن ثمة صورة أخرى لاستفادة الولايات المتحدة ماليا من دول الخليج عنوانها "أذون وسندات الخزانة"، التي تمثل سندا لعجز الموازنة الأمريكية سنويا، وتحتل فيها دول الخليج المرتبة الثالثة.
وفي هذا الإطار، واصلت السعودية استثمارها في سندات الخزانة الأمريكية بقيمة بلغت أكثر من 179 مليار دولار في مايو/أيار الماضي، بما يعادل 72% تقريبا من إجمالي الاستثمارات الخليجية في السندات الأمريكية.
وتصدرت المملكة بهذه القيمة قائمة أكبر مستثمري الخليج في السندات الأمريكية، تلتها الإمارات باستثمارات تزيد على 53.2 مليار دولار.
وجاءت الكويت في المرتبة الثالثة، بإجمالي استثمارات بلغت 41.4 مليار دولار، ثم سلطنة عُمان بـ 8.76 مليارات دولار، وقطر بـ1.81 مليار دولار، وتذيلت البحرين القائمة بنحو 721 مليون دولار.
وبذلك تخطت استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في أذون وسندات الخزانة الأمريكية قيمة الـ285 مليار دولار، حسب مسح لوكالة "الأناضول"، استنادا إلى بيانات وزارة الخزانة الأمريكية.
وتستند دول الخليج في هذا الاتجاه إلى مؤشرات رئيسة، تستنتجها ورقة صدرت عن مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة (دراسات)، مفادها أن الاقتصاد الأمريكي لن يتراجع على الأرجح، رغم أنه لا يزال مهددا؛ بسبب استمرار الصراع التجاري الأمريكي الصيني.
وحذرت الورقة من الانعكاسات المتوقعة للاقتصادات الخليجية في حالة تراجع الاقتصاد الأمريكي؛ لأن الاقتصادات الخليجية تعتمد على أسعار النفط، وأسعار النفط تعتمد على الطلب العالمي للنفط، والطلب العالمي للنفط يعتمد على متانة الاقتصاد العالمي، والاقتصاد العالمي يعتمد على الاقتصاد الأمريكي.
وبذلك تبدو حلقة العلاقة الأمريكية الخليجية المفرغة في إطارها دون تغيير؛ إذ تظل دوافعها جميعا قائمة، باستثناء المؤشرات على قرب حلحلة الأزمة الخليجية، وهو ما لن يؤثر بشكل كبير في استراتيجية "ترامب"، التي تعتمد على التحشيد ضد إيران كخطر مشترك.