الطاهر الطويل- القدس العربي-
ما إن تفتح التلفاز حتى تجد الوجوه نفسها التي «استوطنت» فضاءات السياسة والإعلام وغيرها، تتحدث عن «تخليق الحياة السياسية» و»تكريس الممارسة الديمقراطية» و«شفافية الاستحقاقات الانتخابية»… وغيرها من «الكليشيهات» المندرجة ضمن الحركات «التسخينية» استعدادًا للنزال الانتخابي الذي سيلتئم خلال الصيف المقبل.
رؤية هذه الوجوه المتكررة المتناسخة حجّة كافية لدفع الكثيرين إلى العزوف عن التصويت خلال الانتخابات التشريعية والبلدية، وإن كُنّا حقيقة لا نتمنى ذلك، من منطلق الأمل في التغيير الذي يبدو أنه ما زال مطلبًا بعيد المنال.
هُم أوّل مَن يمسك الميكروفون خلال التجمعات الخطابية. وهم كذلك أوّل مَن يتدافع نحو الكاميرات لتلتقط لهم الصور، وليرددوا عبارات إنشائية ركيكة تنتمي إلى ما يُطلق عليه «لغة الخشب».
منذ عقود، وهم يحتكرون كل شيء: قيادة الأحزاب، ومقاعد البرلمان، والحقائب الوزارية، والمجالس المنتخبة، والمنظّمات الرسمية، واللجان المختلفة، ونشرات الأخبار، والصحف الورقية وبعدها الإلكترونية… وهلم جرا.
ومن فرط ترسُّخ هذا السلوك الاحتكاري الذي صار عندهم عادةً وعبادةً، يُخيَّل إليهم كما لو أنهم وارثون لكل المناصب والحقائب طول العمر، حتى يقبض عزرائيل أرواحهم.
ولا يعتريهم الخجل حين يزعمون أنهم يُشجّعون الشباب والأجيال الجديدة، بل إنهم يؤسسون منظمات شبابية يستدعون لها أبناءهم وأحفادهم وأصهارهم وعشيرتهم القريبة والبعيدة، وذلك تكريسًا لفهمهم الخاص لتجديد النخب السياسية.
لا علاقة لهذه الوجوه بالعملية الديمقراطية التي من المفروض أن تكون تجسيدًا للتداول على السلطة، بل إن تلك الوجوه تجلٍّ حقيقي للريع ولهيمنة العقلية الشمولية؛ فالديمقراطية في المغرب توحي ظاهريًّا بالتعددية، ولكنها كممارسة تسير باتجاه الأحادية والشخصنة والاقتصار على حلقة ضيقة جدا من الأسماء التي انتهت عندها، وحدها فقط، ذروة الخبرة السياسية وحنكة القيادة، مثلما تعتقد هي نفسها، ويعتقد مَن حولها من المُريدين والانتهازيين والطامعين في الفتات.
هل تدفعك رؤية هذه الوجوه إلى الكفر بالديمقراطية؟ حتمًا لا. بل إنها تزيدك اقتناعًا بأن تحمل الشعار البليغ: «يتنحّاو كاع» على حد قول إخوتنا الجزائريين!
«الآخر هو الجحيم»
«الجَمل لا يرى سنامه، لكن يضحك إذا رأى سنام أخيه» مَثل ينطبق على قناة «العربية» السعودية التي تركّز هذه الأيام على انتهاكات حقوق الإنسان في عدد من الدول العربية والإسلامية كسوريا وإيران وتركيا وغيرها، لكنها تغض الطرف عمّا يجري في بلاد الحرمين الشريفين، كما لو أن أهاليها يرفلون في جنات لا ظلم فيها ولا اعتداء.
فمنذ يومين، خصصت نشراتها الإخبارية لموضوع محاكمة ضابط المخابرات السوري السابق إياد الغريب في ألمانيا، وأسهبت في الحديث عن جرائم التعذيب والقتل التي كان ينفّذها هو وزملاؤه في حق المعتقلين السوريين المُعارضين لنظام الأسد.
وانتقلت إلى موضوع الاحتجاجات الشعبية في إيران، حيث تحدثت عن تجاوزات الشرطة هناك وقمعهم المتظاهرين، وافتخرت القناة إياها ببثّ تصريح مباشر لوالد أحد المُعتقلين، أدلى به من داخل الجمهورية الإيرانية.
ثم عرّجت القناة السعودية على تركيا، مُدلية بدلوها في الحملة التي أطلقها مُغرّدون سعوديون، والداعية إلى مقاطعة بلد رجب طيب أردوغان، وذلك بعدما بثت قناة تركية خريطة افتراضية عن نفوذ أنقرة بحلول عام 2050، وفي هذه الخريطة التي نسبتها القناة إلى معهد أمريكي يظهر طموح «العثمانيين الجدد» (على حد تعبيرها) الذين يريدون «ابتلاع» المملكة العربية السعودية ومعظم البلدان العربية الأخرى.
من خلال قناة «العربية» إذن، يبدو العالم تقريبًا (لا سيما «محور الشر») مليئا بالمشكلات وأوجاع الرأس (الآخر هو الجحيم، بتعبير سارتر) إلا بلدها هي، فلا انتهاكات لحقوق الإنسان، ولا اعتقالات، ولا نشطاء حقوقيين أو مثقفين أو دعاة في السجون، ولا فوارق طبقية صارخة، ولا احتكار للسلطة لدى فئة محدودة جدا… كما لو أن ما يتردد في وسائل الإعلام العالمية والمنظمات الحقوقية وتقارير الهيئات الأممية وغيرها، عن واقع الحال في بلاد الحرمين الشريفين، مجرد زيف وبهتان وكلام حُسّاد طامعين!
طي الصفحة
استحضر المغاربة منذ أسبوع ذكرى حركة «20 فبراير» التي انطلقت مع «الحراك العربي» بفضل إرادة شريحة عريضة من الشباب. وشاءت الصدف أن تكون المناسبة متزامنة مع احتجاجات تشهدها مدينة «الفنيدق» نتيجة إغلاق معبر سبتة، المنفذ الرئيس لقوت المواطنين هناك، واحتجاجات أخرى لفئات مهنية مختلفة، خاصة المدرّسين المتعاقدين، فضلا عن تذمر مواطنين جراء التهميش الذي تعانيه مدنهم وقراهم النائية.
صحيح أن التلفزيونات منشغلة هذه الأيام بموضوع اللقاح ضد «كورونا» وتترجم «انتشاء» الحكومة بتواصل حملة تطعيم المواطنين، ولكنّ أخبار أشكال الاحتجاج الراقية تجد مجالها الرحب في شبكات التواصل الاجتماعي وكذا في المواقع الإخبارية الإلكترونية، وبعض التلفزيونات العالمية.
مراقبون يؤكدون أن على حكومة سعد الدين العثماني التعامل بالجدية المطلوبة مع مختلف أشكال الحراك. كما أنها ـ في الوقت نفسه ـ مدعوة إلى إقرار نوع من «المصالحة» و«الانفراج السياسي» و»طي الصفحة» من خلال الكف عن متابعة صحافيين وحقوقيين قضائيا، والعفو عن المعتقلين منهم داخل السجون.
مطلبٌ تردد على لسان أمين عام حزب «الأصالة والمعاصرة» المعارض، المحامي والبرلماني، عبد اللطيف وهبي، ونقله أحد المواقع الإخبارية، حيث دعا إلى تحقيق انفراج في البلاد، قبل الوصول إلى محطة الانتخابات المقبلة، وأكد أن القرار السياسي محكوم بالمحيط الدولي. وانتهز فرصة مناقشة تعديلات القوانين الانتخابية، منذ يومين، ليقول أمام وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت: «حتى ندخل إلى الانتخابات، علينا أن نتجه نحو انفراج سياسي، هناك مجموعة من الملفات يجب أن ننهيها، وهناك مجموعة من الملفات يجب أن نوقفها، (صافي الله يجعل البركة) فمن أدى الثمن أداه (…) الآن، أمام هذا التوجه الجماعي، نريد أن يتوج بانفراج أخلاقي وقانوني، ولا نريد أن توجه إلينا فيه أصابع الاتهام من طرف معين». واعتبر أن التحولات التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية «ستنعكس علينا، فالفريق الديمقراطي بدأ يطرح ملف حقوق الإنسان. لدينا مصالح وضغوط دولية واستراتيجية، وجغرافية تفرض علينا أخذها بعين الاعتبار».
وجاء هذا الكلام متزامنا مع ملتمس العفو المرفوع إلى مقام العاهل المغربي محمد السادس من طرف الوزير السابق المنتمي لحزب الاستقلال محمد الخليفة، في شأن طلب إطلاق سراح الصحافيين توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني والحقوقي المعطي منجب وغيرهم.
إدارة جو بايدن ترفع ورقة حقوق الإنسان حتى في وجه أصدقائها العرب، رغم المصالح التي تجمعها معهم. شُعرت بذلك السعودية، أو أشعرت به، الأمر سيان، فأطلقت سراح الناشطة الحقوقية لجين الهذلول والطبيب والإعلامي وليد فتيحي… وغيرهما. ولكن آخرين ما زالوا رهن الاعتقال وبدون محاكمة، وقد يبقون منسيين لكونهم بعيدين عن الأضواء العالمية!
وتُشهر الإدارة الأمريكية ورقة الضغط أيضا في وجه السعودية، عبر تبني قضية مقتل الإعلامي والكاتب جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول. كما تشهرها في وجه نظام السيسي ذي الملفات الحقوقية السوداء.
الرسالة واضحة للجميع: إذا أردتم بقاء مصالحكم مستمرة مع حاكم «البيت الأبيض» الجديد، فعليكم بطيّ ملفات الاعتقال السياسي!