متابعات-
"الولايات المتحدة لن تفرض عقوبات على الحكومة السعودية".. هكذا حسم الرئيس الأمريكي "جو بايدن" التوقعات بشأن تداعيات نشر تقرير الاستخبارات الوطنية الأمريكية حول اغتيال الصحفي "جمال خاشقجي"، الذي حمل ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" مسؤولية الجريمة، ما دفع مراقبين للتساؤل حول سبب استمرار الولايات المتحدة في حماية الأنظمة القمعية حول العالم رغم تبدل الإدارات الجمهورية والديمقراطية.
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا، والمسؤول السابق بوزارتي الخارجية والدفاع "جيفري فيلدز" تناول سبب تناقض "بايدن" مع تعهده الانتخابي بأن يجعل السعودية "دولة منبوذة" على خلفية جريمة اغتيال "خاشقجي"، مشيرا إلى أن الرئيس الديمقراطي يتصارع مع حقيقة استراتيجية مفادها أن السعودية لاتزال مهمة لتحقيق أهداف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وفقا لتحليل نشره موقع "ذا كونفرزيشن" الأمريكي.
السياسة الواقعية
وذكر "فيلدز" أن "الأخلاق الانتقائية" في التعامل مع الأنظمة القمعية سمة تاريخية للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وهو تعامل يستند إلى المصالح المتبادلة بدلاً من الاهتمامات الأيديولوجية، فيما بات يعرف باسم "السياسة الواقعية".
كان "هنري كيسنجر"، وزير الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون"، أستاذًا لهذه السياسة الواقعية، عندما قامت إدارته بتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الصين، وهي العلاقات التي انقطعت عام 1949 عندما تولى الشيوعيون السلطة في بكين.
في ذلك الوقت، وكما هو الحال الآن، كانت الصين قمعية بشكل لا يصدق، لكنها كانت أيضًا - ولا تزال - قوة نووية وأكثر دول العالم من حيث عدد السكان، ولذا سعى "نيكسون"، المناهض للشيوعية بشدة، إلى استغلال الخلاف المتزايد بين الصين والاتحاد السوفيتي آنذاك.
وتحتفظ واشنطن إلى اليوم بعلاقة مهمة مع بكين، وإن كانت متوترة في بعض الأحيان، على الرغم من اضطهاد الصين المستمر للأقليات المسلمة.
وتنطبق ذات السياسة الواقعية الأمريكية على أمريكا اللاتينية أيضًا، فبعد الثورة الكوبية عام 1959، دعمت الولايات المتحدة بانتظام الدكتاتوريين العسكريين في أمريكا الوسطى والجنوبية الذين عذبوا وقتلوا المواطنين؛ وذلك "للدفاع" عن الأمريكتين من الشيوعية.
بين ترامب وبايدن
من هذا المنطلق كان تعاطي الإدارات الأمريكية مع السعودية، التي تحتل مركزا تاليا للصين في مؤشر الحريات، وفقا لمؤسسة "فريدوم هاوس"، وبدا أنه لا فارق جوهري بين إدارة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" وخلفه "بايدن" في هذا الشأن، حسبما يرى "فيلدز".
فإدارة "ترامب" ظلت مترددة في مواجهة السعودية بشأن مقتل "خاشقجي"، ولم تفعل شيئا سوى إلغاء تأشيرات دخول الولايات المتحدة لبعض المسؤولين السعوديين المتورطين في الجريمة، دون أي عقوبات على المملكة.
ذكّر "ترامب"، ومسؤولون آخرون في البيت الأبيض، آنذاك المنتقدين بأن السعودية تشتري أسلحة بمليارات الدولارات من الولايات المتحدة، وأنها شريك مهم في حملة الضغط الأمريكية على إيران.
وبدا موقف "بايدن" أكثر صرامة بعض الشيء فور توليه السلطة، حيث وافق على إصدار التقرير الاستخباراتي الذي يلقي باللوم على "بن سلمان" في مقتل "خاشقجي" ومعاقبة 76 مسؤولًا سعوديًا، لكنه لم يفرض عقوبات على المملكة أيضا.
يتناقض ذلك تماما مع حقيقة أن السعودية واحدة من أكثر الأنظمة استبدادًا في العالم، إذ تعتقل المعارضين بشكل روتيني ودون مراجعة قضائية، حسبما رصدت منظمات حقوقية، بينها "هيومن رايتس ووتش"، وهي الممارسات التي سبق لـ "بايدن" التعهد بعدم غض الطرف عنها في حملته الانتخابية.
ثروة السعودية وموقعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط وصادراتها النفطية تبقي المملكة حليفًا حيويًا للولايات المتحدة، وهي ما يدفع "بايدن" لمخالفة تعهداته السابقة، حسبما يرى "فيلدز"، مشيرا إلى أن تصريحات الوعود الانتخابية شيء وواقعية السياسة الرسمية للولايات المتحدة شيء آخر.
وضرب أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا مثالا بالرئيس الأمريكي الأسبق "باراك أوباما"، الذي طالما تحدث عن "القيم الأمريكية" وضرورة احترامها والالتزام بها، ورغم ذلك زار السعودية أكثر من أي رئيس أمريكي آخر، بواقع 4 مرات في 8 سنوات، من أجل بحث المصالح المشتركة، خاصة تلك المتعلقة بإيران وإنتاج النفط.
من هنا كان رد "ترامب" على انتقادات "أوباما" له بشأن علاقته بروسيا، إذ تذرع بشكل ضمني بالسياسة الواقعية الأمريكية، ووجه حديثه لسلفه الديمقراطي قائلا: "هل تعتقد أن بلدنا بريء للغاية؟" وفقا لما أوردته قناة فوكس نيوز.
وأشار "ترامب" آنذاك إلى أن الولايات المتحدة حافظت على علاقات وثيقة مع العديد من الأنظمة التي تتعارض قيمها وسياساتها مع القيم الدستورية الأمريكية مثل الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان.
وكانت مصادر مطلعة في العاصمة السعودية، الرياض، قد أفادت، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بأن "بن سلمان" تلقى رسائل مطمئنة من الدوائر المقربة من "بايدن" خلاصتها أن "رؤية الرئيس تختلف عن تصريحات المرشح الانتخابي"، وفقا لما أورده موقع "تاكتيكال ريبورت" المعني بشؤون الاستخبارات.
وجاءت تطمينات دوائر الإدارة الأمريكية بعد أن سارع "بن سلمان"، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، لفتح قنوات اتصال مع "بايدن"، عبر تكليف وجهه إلى السفير السعودي السابق في واشنطن، الأمير "بندر بن سلطان"، باعتبار أن الأخير لديه دائرة واسعة من الأصدقاء بين المسؤولين الأمريكيين المخضرمين، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.