د. علي دربج-
منذ نشأة الولايات المتحدة على جماجم سكانها الأصليين (الهنود الحمر)، لم تكن القيم الأميركية المزعومة كالديمقراطية وحقوق الإنسان وحريته، التي نص عليها الدستور الأميركي، وتباهى بها رؤساء وقادة وساسة أميركا، الا مجرد عبارات مكتوبة بحبر سرّيّ، ما تلبث أن تتبخّر سريعًا، عندما تتقاطع مصالح إمبراطوريتهم المالية والاقتصادية، مع مصالح حكام الدول الديكتاتورية، خصوصًا مشيخات النفط الخليجية.
عندها تتقدم لغة الصفقات والشيكات المصرفية والعقود الاستشارية والتبرعات الخيرية، والرشى الانتخابية، على القوانين والأنظمة الأميركية، ويصبح القتل مبررًا، تمامًا، كما حصل في التعاطي الأميركي مع قضية قتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي، إذ إنه، وبالرغم من مسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن هذه الجريمة، وباعتراف الاستخبارات الأميركية، التي ذكر تقريرها الصادر في أواخر شباط الماضي 2021، حرفيًا أن ابن سلمان وافق على عملية اعتقال أو قتل "خاشقجي"، التي وقعت في القنصلية السعودية بإسطنبول عام 2018، الا أن ترامب تدخل نيابة عن سلمان وفقًا لكتاب الصحفي بوب وودوارد لعام 2020 تحت عنوان "الغضب"، حيث نقل وودوارد عن ترامب قوله عن ولي العهد: "لقد أنقذته.. تمكنت من إقناع الكونجرس بتركه وشأنه".
صحيح أن الرئيس الأميركي السابق، جاهر وبالغ بشكل كبير في احتضان ابن سلمان، بعد حصول ترامب على صفقات أسلحة غير مسبوقة من ولي العهد السعودي، لكن واقع الحال أن الضوء الأخضر الأميركي الممنوح لبن سلمان في قضية خاشقجي بدأ خلال عهد الرئيس اوباما.
إذ ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها في حزيران الماضي 2021، ان "شركة (Tier 1 Group) وهي شركة تدريب على العمليات الخاصة، مقرها أركنساس ومملوكة لشركة "Cerberus" "سيربيروس كابيتال مانجمنت"، وهي شركة أسهم خاصة، يتمتع مؤسسها، ستيفن فينبرغ بعلاقات وثيقة مع إدارة ترامب، دربت بعض قتلة خاشقجي، الذين هم أعضاء في فرقة سعودية من النخبة، مكلفة بالدفاع عن ولي العهد السعودي ابن سلمان. وقد بدأ التدريب في عهد إدارة أوباما، بعدما تمت الموافقة عليه من قبل وزارة الخارجية الاميركية، واستمر على الأقل في السنة الأولى من عهد ترامب.
يشغل لويس بريمر ــ وهو مسؤول تنفيذي كبير في شركة "سيربيروس" ومرشح سابق لترامب لمنصب العمليات الخاصة في البنتاغون ــ حاليًا منصب العضو المنتدب في الشركة، إضافة الى عضويته أيضًا في مجلس إدارة Tier 1 Group.
وفي هذا الاطار، أفادت صحيفة The Intercept العام الماضي عن الصلات بين قتلة خاشقجي وترامب. إذ ضخت الشركة أكثر من 3.2 مليون دولار للمجموعات المؤيدة لترامب منذ عام 2016. المثير في الأمر انه لم تحظ تبرعات الرئيس التنفيذي لشركة سيربيروس ستيفن فاينبرغ، إلى ترامب في عام 2020، باهتمام كبير حتى الآن، ولم تربط التغطية السابقة لرد ترامب على القتل والنهج المتبع في العلاقات الأمريكية السعودية، بين الاثنين.
تبرع Feinberg بمبلغ 1.475 مليون دولار في عام 2016 إلى America Now Rebuilding، وهي منظمة مؤيدة لترامب برئاسة حاكم فلوريدا آنذاك ريك سكوت. أكثر من ذلك، في نهاية انتخابات عام 2020، وتحديدًا في 2 تشرين الثاني، تبرع فاينبرغ بمليون دولار أمريكي إلى "America First Action"، وهي اللجنة الرئيسية المؤيدة لترامب، وبمبلغ 725000 دولار إضافية لصندوق ترامب للنصر. كذلك تلقت حملة الرئيس جو بايدن في العام 2020، تبرعات تزيد قليلاً عن 150 ألف دولار من موظفي شركة سيربيروس، ولكن هذا كان يشمل تبرعات صغيرة بالدولار من موظفين من المستوى الأدنى في الشركة، ولم يتبرع أي من المديرين التنفيذيين في سيربيروس إلى لجان العمل السياسي العليا المؤيدة لبايدن.
قبل ذلك بعامين، في ايار 2018، عيّن ترامب فينبرغ لقيادة المجلس الاستشاري للاستخبارات للرئيس، وهو هيئة غامضة عمرها 65 عامًا من المعينين الذين ليسوا موظفين فيدراليين ولكن مع ذلك يمكنهم الوصول إلى أسرار الدولة.
وفي هذا الصدد، ذكرت صحيفة التايمز في عام 2020، أن مسؤولًا استخباراتيًا لم يذكر اسمه قال إن "الأسئلة التي يطرحها مجلس الإدارة قد تكون في بعض الأحيان "مرتبطة بمعاملاتهم التجارية"، مما يعني ضمنًا أن الأعضاء سوف يربطون مصالحهم المالية الشخصية مع أعمال الجمهور". وبينما ترأس فينبرغ مجلس الإدارة ، ورد أنه كان أيضًا ودودًا مع جاريد كوشنر، صهر الرئيس السابق المعروف بعلاقته الوثيقة بسلمان.
في أعقاب الاغتيال، طالبت مجموعة مؤلفة من 22 عضوًا في مجلس الشيوخ ترامب بالتحقيق في جريمة القتل وفقًا لقانون ماغنيتسكي العالمي، الذي ينص على أن يصدر الرئيس تقريرًا يحدد ما إذا كان الرعايا الأجانب قد شاركوا في عمليات قتل خارج نطاق القضاء أو انتهاكات خطيرة أخرى لحقوق الإنسان، إلى جانب بيان حول ما إذا كان الرئيس ينوي فرض عقوبات على هؤلاء الأفراد أم لا.
رفض ترامب إصدار التقرير، لكن اللافت في الأمر أنه بعد شهرين فقط من الموعد النهائي لتقديم التقرير، أعلنت شركة المقاولات الدفاعية الكبرى DynCorp أنها تلقت عقدًا جديدًا بقيمة 21 مليون دولار من الحرس الوطني السعودي.
وحتى تشرين الثاني 2020، عندما تم الاستحواذ عليها من قبل شركة Amentum، كانت شركة DynCorp مملوكة لشركة Cerberus. الجدير بالذكر انه منذ عام 2015، يشن الجيش السعودي - بدعم من الإمارات العربية المتحدة والبنتاغون والمتعاقدين مثل Dyncorp - حربًا مميتة في اليمن أسفرت عن مقتل الآلاف بما فيهم الأطفال، رغم أن هذه الحالة بالذات تنطوي على مخاطر مروعة وعالية على السياسة الأميركية برأي الخبراء الأميركيين، إلا أن عنصرًا مركزيًا من المشكلة يكمن في معادلة بسيطة ومألوفة، وفقًا لكريغ هولمان، أحد أعضاء جماعة الضغط الأخلاقي في مجموعة مراقبة المواطن العام Public Citizen.
فقد أشار هولمان إلى أن "مساهمات فاينبرج المالية الكبيرة في حملة ترامب "مكنته" من "المساعدة في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، حيث استفادت أعماله بشكل جيد من بيع التدريب العسكري للسعوديين المسؤولين عن مقتل خاشقجي. وانطلاقا من ذلك كان رفض ترامب معاقبة السعوديين على جريمة القتل هذه، أو تقييد المتعاقدين العسكريين الخاصين، مثل أولئك الذين كان لفينبرغ مصلحة مالية معهم لاستمرار علاقاته التجارية المربحة مع الحكومات الأجنبية، وأحيانًا مع تلك المعروفة بارتكاب انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان".
إدارة بايدن بدورها، لم تخرج عن السياسة التي اتبعها ترامب لجهة حماية ابن سلمان، إذ كانت مترددة في معاقبة السعودية بالكامل، حتى انها لم توقف التعاون العسكري مع السعودية في حربها على اليمن، التي أدت إلى كارثة إنسانية، حيث تبرع موظفو "هوجان لوفيلز"، أكبر شركة ضغط سعودية في واشنطن العاصمة، بمبلغ 346 ألف دولار لحملة بايدن في عام 2020، وفقًا لبيانات من شركة OpenSecrets.
علاوة على ذلك، حتى اعلان وزارة الخارجية الأمريكية "حظر خاشقجي"، وهي قاعدة تسمح للوزارة بمعاقبة الأفراد الذين تجدهم مذنبين بارتكاب "قمع عابر للحدود"، لم يتم استخدامه حتى الآن لمعاقبة ابن سلمان. (فتش عن الاموال السعودية).