د. سعيد الشهابي- القدس العربي-
خمسة أسابيع مرت على أكثر من 1200 مواطن بحراني وهم عالقون في مدينة مشهد الإيرانية، ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى حتمية عودتهم إلى وطنهم قريبا لأسباب عديدة أهمها رفض حكومتهم إعادتهم برغم المناشدات المتواصلة من أهالي هؤلاء المواطنين والحكومة الإيرانية والمنظمات الحقوقية. ويطرح الكثيرون سؤالا مهما: لماذا تسييس القضايا الإنسانية بهذا المستوى؟ لماذا لا تكفي الدوافع الإنسانية في هذه الظروف التي يتساقط البشر يوميا ضحايا لفيروس كورونا للتخلي عن مشاعر الحقد والكراهية والخلاف السياسي لدفع كل إنسان لمساعدة أخيه الإنسان، على اختلاف العرق والدين والتوجه السياسي؟ تساؤلات مشروعة يطرحها المهتمون بقضية هؤلاء العالقين في مدينة تشرف على منطقة القوقاز، بعيدة عن طبيعة مياه الخليج وأهله. لكنها لا تجد إجابات شافية من حكومة تصر على موقفها بالتخلي عن مسؤوليتها الوطنية والإنسانية. فما حقيقة هذه القضية التي تملأ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي في هذا البلد الذي لم تستقر أحواله منذ عقود؟
اعتاد قطاع كبير من أهل البحرين القيام بزيارات دينية إلى العراق وإيران، بالإضافة للإراضي المقدسة في مكة والمدينة. فظاهرة الالتزام الديني لدى أهل البحرين، ماضيا وحاضرا، تدفعهم لقطع المسافات من أجل الانقطاع للعبادة في المساجد التي أقيمت عند أضرحة الأئمة من أحفاد رسول الله. وفيما يهرع ذوو الإمكانات المادية الميسورة للاستفادة من إجازات المدارس في الربيع والصيف والأعياد للسفر يتحاشى المعوزون تلك الفترات نظرا لارتفاع تكاليف السفر فيها. وفي الشهر الماضي كان هناك أكثر من ألفي من هؤلاء في مدينة مشهد الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من إيران، بالقرب من الحدود مع أفغانستان. هناك يقع ضريح الإمام علي بن موسى الرضا، أحد أحفاد رسول الله من سلالة سبطه الحسين بن علي. يقضي هؤلاء الزوار ما بين أسبوع وأسبوعين ينقطعون فيها للعبادة، صلاة ودعاء وتلاوة قرآن. كما يستمتعون بالطبيعة الخلابة في تلك المنطقة من العالم ذات الطقس البارد مقارنة بمنطقة الخليج والجزيرة العربية. وشاءت الأقدار أن ينتشر وباء فيروس كورونا في إيران قبل شهرين، فأوقفت شركات الطيران رحلاتها إلى إيران. وبسبب العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البحرين والجمهورية الإسلامية، فقد أوقفت شركة «طيران الخليج» رحلاتها إلى المطارات الإيرانية. ولذلك يستخدم البحرانيون شركات طيران خليجية أخرى للوصول إلى مدينة مشهد. وبعد انتشار الوباء في إيران قررت هذه الشركات وقف رحلاتها كذلك، فأصبح جميع الزوار عالقين. ولكن الحكومات الخليجية الأخرى مثل القطرية والعمانية والإماراتية والكويتية، بادرت لإجلاء مواطنيها على وجه السرعة. أما حكومة البحرين فلم تفعل ذلك، فأصبح أكثر من 1300 مواطن عالقا في مدينة مشهد.
هنا ارتفعت أصوات إعلامية عديدة تطالب بعدم إرجاع هؤلاء المواطنين بدعاوى غير منطقية، فتارة يقال إنهم مسؤولية إيران، وأخرى إنهم سيكونون مصدرا لتفشي الوباء في البحرين، وثالثة عدم وجود إمكانات لعملية الإجلاء، ورابعة بعدم توفر وسائل الحجز الصحي في البلاد. وبرغم استعداد حكومات خليجية وجهات مستقلة للمساعدة إلا أن ذلك لم يكن ممكنا ما دامت حكومتهم تصر على منعهم من العودة. وفي هذه الأثناء يتصاعد القلق لدى هؤلاء، بعد أن نفدت إمكاناتهم النقدية والمادية بالإضافة للقلق المتصاعد من الوباء الذي ينتشر بسرعة في إرجاء إيران. ويزيد من عمق القلق الضغط الأمريكي على طهران واستمرار ادارة ترامب في فرض المزيد من العقوبات برغم انتشار الوباء في بلد محروم من استيراد الغذاء والدواء ضمن واحدة من أشد العقوبات والحصار في التاريخ الحديث.
هذا بالإضافة لوقف التعامل المصرفي مع إيران، الامر الذي جعل البحرانيين العالقين في وضع إنساني سيء جدا. ولذلك توفي العديد منهم نتيجة انتشار وباء كورونا في الأسابيع الأخيرة، وتحت الضغط تم إجلاء 165 منهم إلى البحرين اتضح أن نصفهم مصاب بالمرض. كانت تلك الرحلة فريدة، إذ سرعان ما توقفت عملية الإجلاء، حتى أن رحلة أخرى لنقل دفعة جديدة يوم الخميس الماضي، ألغيت بقرار من حكومة البحرين التي ادعت أن شركة الطيران هي التي ألغت الرحلة. في هذه الأثناء قامت شركة طيران الإمارات بإجلاء أكثر من مئة مواطن كوري من إيران إلى بلدهم بمبادرة من حكومتهم.
ماذا يعني ذلك؟ منذ البداية كان هناك تسييس واضح للقضية. فقد شنت وسائل الإعلام في السعودية والبحرين حملة ضد إيران بتهمة سعيها لنشر الوباء في دول مجلس التعاون برغم انتشاره في أغلب دول العالم. وبدلا من هذه الحملة غير المسؤولة كان الأحرى بالإعلاميين تعميق الثقافة الصحية وتشجيع الأطباء والسلطات على بث التعليمات الملائمة لمنع انتشار الوباء بدلا من هذه الأساليب التي لا تحقق نتائج إيجابية للمنطقة. هذه الظاهرة عمقت الشعور بتلاشي المشاعر الإنسانية لدى البعض، ففي الظروف الاستثنائية يتناسى البشر خلافاتهم ويهرعون لإغاثة بعضهم. أما إثارة الضغائن والأحقاد فهي سمات الشياطين، أعداء الإنسان، وهي من سمات السياسات الأمريكية التي ينتقدها العالم. فما أكثر الذين تمنوا أن تتمكن الصين من إنتاج مصل مضاد للفيروس لكي يصبح متوفرا للعالم، قبل أن تتمكن أمريكا من ذلك لأنها ستستخدمه سلاحا سياسيا. وعندما سعت أمريكا لشراء شركة المانية تقوم بتطوير علاج آخر، رفضت حكومة المانيا قائلة إن الفريق الالماني إذا نجح في ذلك فسيكون للعالم كله، على عكس أمريكا. وثمة إدراك يزداد عمقا بخطأ السياسة الأمريكية التي تبالغ في فرض العقوبات والحصار على إيران في الوقت الذي ينتشر الوباء لديها على نطاق واسع. بين الثقافة الشرقية والغربية تطرح الصين في مقابل أمريكا. ففيما تبادر الأولى لمساعدة إيران بالخبرات التي اكتسبتها من حملتها على الوباء الذي تمكنت من احتوائه، كما يبدو، فرضت امريكا المزيد من العقوبات على إيران، واضافت أسماء خمسة من علماء الذرة الإيرانيين على قائمة العقوبات. وفيما بادرت الصين لتزويد العراق بخبراتها لمواجهة الوباء، شنت أمريكا هجوما على أهداف عديدة في العراق قتل فيها عدد من العراقيين. فهل تريد البحرين حذو أمريكا في هذا المجال؟
وثمة اتهام آخر يوجهه المعارضون لحكومة البحرين. فقد أحجمت عن إطلاق سراح السجناء السياسيين، برغم إعلانها مؤخرا قرارا بالإفراج عن قرابة 1500 من السجناء. واتضح لاحقا أن أغلب هؤلاء سجناء جنائيون وأجانب، وليس بينهم سوى أقل من 250 من سجناء الرأي، قضى أغلبهم فترة حكمه ولم يبق إلا أسابيع أو شهور منها. ويساور القلق عائلات السجناء السياسيين الذين يقدر عددهم بأكثر من 4000، بعضهم تجاوز السبعين من العمر. وثمة خشية من انتشار الوباء في أروقة السجون خصوصا مع اكتظاظها من جهة وتردي مستوى النظافة من جهة أخرى، وغياب الرعاية الصحية المناسبة ثالثا. وقد اعتادت الحكومة الإفراج عن بعض السجناء المرضى ليموتوا خارج المعتقلات. ومن المؤكد أن هذه البيئة ستساعد على انتشار الوباء في الأروقة والزنزانات، الأمر الذي ستكون له عواقب وخيمة. وثمة اتهامات من بعض العائلات للحكومة بأنها قد تفرج عن بعض السجناء السياسيين الشباب وتبقي القيادات والرموز وراء القضبان. الأمر المؤكد أن الوباء، برغم أضراره، أحد الأساليب الالهية التي تكشف ضعف الطغاة والمستبدين. هذا الوباء أجبر حكومة البحرين، التي تصر على إبقاء سجناء الراي وراء القضبان حتى يكملوا أحكامهم كاملة، على إطلاق بعضهم بشكل انتقائي. فمثلا لم يطلق سراح هاجر منصور إلا بعد أن أكملت الحكم الذي صدر بحقها (اعتقلت في 5 مارس/آذار 2017 وأفرج عنها في 5 مارس/آذار 2020)، بدون حسم ساعة واحدة من السنوات الثلاث التي حكمت بها بسبب مشاركتها في الفعاليات السلمية المطالبة بإصلاحات سياسية. في الأسبوع الماضي قالت لين معلوف، مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية: «إن استمرار سجن أحمد منصور، الذي يكمل اليوم ثلاث سنوات في الحبس الانفرادي، ما هو إلا مؤشر لزيف مبادرة الإمارات لتعزيز دورها كـ»حاضنة التسامح»! مضيفة: عندما تعاقب السلطات بهذه الطريقة القاسية والمستمرة الأفراد لمجرد ممارسة حقهم في حرية التعبير، فإن حديثها عن «التسامح» ليس سوى خداع. وهناك مطالبات بالافراج عن مجموعة «بحرين 13» وهم قادة الثورة وبعضهم يتجاوز السبعين من العمر وكذلك الشيخ علي سلمان، الأمين العام لجمعية الوفاق، ونبيل رجب، رئيس مركز البحرين لحقوق الإنسان. فإذا كانت الظروف الحالية التي يمر بها العالم لا تكفي لإجبار هؤلاء على العودة للفطرة الإنسانية المتسامحة والمحبة، فمتى سيحدث ذلك؟