متابعات-
تساءل محرر الشؤون الأمنية في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فرانك غاردنر عن عمق المشاكل التي تواجه السعودية. وتحدث في تقريره الذي نشره موقع “بي بي سي” عن آثار القرارات الأخيرة من مضاعفة ضريبة القيمة المضافة إلى 15% وإلغاء الدعم الشهري رابطا القرارات بانهيار أسعار النفط العالمية إلى أقل من نصف ما كانت عليه قبل عام، مما أدى لتراجع الموارد الحكومية بنسبة 22% وتأخير تنفيذ مشاريع كبيرة، وفي الوقت نفسه انخفضت أرباح شركة أرامكو بنسبة 25% في الربع الأول من هذا العام، كل هذا بسبب انهيار أسعار النفط.
ونقل الكاتب عن المحلل في شؤون الخليج، مايكل ستفينز، قوله: “تعبر هذه الإجراءات عن محاولة للحد من النفقات وتحقيق الاستقرار في أسعار النفط الضعيفة”، مضيفا أن وضع المملكة الاقتصادي “في حالة رهيبة” ويحتاج لوقت كي يستعيد حسا من العادية.
وعاث فيروس كورونا الفساد في الاقتصاد الذي يعتمد بشكل عميق على ملايين العمال غير المهرة القادمين من دول آسيا ويعيشون في مساكن مزدحمة وتفتقر لمقتضيات النظافة. ولا يزال ولي العهد السعودي الذي يتمتع بدعم داخلي منبوذا في الغرب بسبب الشكوك العالقة حول دوره في قتل الصحافي جمال خاشقجي. ولم تستعد السعودية ثقة المستثمرين العالميين بسبب هذه الجريمة البشعة لقتل وتقطيع الصحافي على يد عملاء حكوميين في القنصلية السعودية بإسطنبول عام 2018.
واستنزفت الحرب في اليمن التي تجري منذ خمسة أعوام الخزينة السعودية بدون أن تتحقق فيها مكاسب ملموسة، فيما كسر الخلاف مع قطر الوحدة السطحية بين دول الخليج الستة. فهل هذا يعني أن السعودية تواجه مشاكل خطيرة؟
ويجيب أن فيروس كورونا عبث باقتصاديات دول في كل أنحاء العالم والسعودية ليست استثناء. ولديها احتياطي من الأملاك الأجنبية بقيمة 320 مليار دولار ويمكنها الاعتماد عليه. ولديها شركة أرامكو التي قدرت قيمتها بـ1.7 تريليون دولار في العام الماضي وهو ما يساوي قيمة كل من أمازون وغوغل معا، في ذلك الوقت. ومن خلال وضع جزء من أسهم الشركة في السوق المالي استطاعت جمع 25 مليار دولار.
ويقول ويليام باتي، السفير البريطاني السابق في السعودية، إن “السعودية لديها مرونة داخلية” و”لديها الكثير من المصادر التي يمكنها الاعتماد عليها بحيث تخرج من أزمة تراجع النفط بحصتها من السوق كما هي إن لم تتحسن”.
ويبدو أن التهديد الإيراني عليها قد خف بعد الهجوم على منشآتها النفطية في أيلول/ سبتمبر العام الماضي واغتيال الجنرال قاسم سليماني في كانون الثاني/ يناير هذا العام.
وسحبت البنتاغون القوات الطارئة التي أرسلت بعد الهجمات، كما تراجع تهديد الجماعات الإسلامية الجهادية والقاعدة بشكل كبير مع أنه لم يختف. إلا أن السعودية تواجه تحديات متزايدة وخطيرة مثل الاقتصاد، فخطط التقشف هذا الأسبوع جاءت كمفاجأة للسعوديين الذين كانوا يتطلعون لمستقبل براق في ظل الخطط الكبرى لتنويع الاقتصاد وفطم اعتماده على موارد النفط. وحتى وزير المالية أشار إليها بـ”الإجراءات المؤلمة”، وهي محاولة لتأمين الضرر الذي كلف السعودية 26 مليار دولار في شهر آذار/ مارس بسبب فيروس كورونا وانهيار أسعار النفط.
وعانت الميزانية السعودية في الربع الأول من العام من عجز بـ9 مليارات دولار. وهذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها السعودية وضعا كهذا، ففي عام 1998 قدم ولي العهد في حينه الأمير عبد الله تحذيرا لقادة دول مجلس التعاون الخليجي قائلا: “سعر برميل النفط 9 دولارات” و”انتهت الأيام السعيدة ولن تعود ويجب علينا جميعا شد الأحزمة”. ولكن أسعار النفط ارتفعت إلى 100 دولار للبرميل ولكن ليس قبل تجميد خطط التوظيف وإبطاء مشاريع البناء الكبرى. ولكن الوضع هذه المرة قد يكون أخطر، فقد أدى انهيار أسعار النفط وانتشار فيروس كورونا إلى نسف كل المشاريع في أنحاء المملكة، مما أثار أسئلة حول خطط ولي العهد محمد بن سلمان الكبرى وإن كانت قابلة للتنفيذ.
وتقول الحكومة إن مشاريع مثل نيوم التي رصد لها 500 مليار دولار مستمرة لكن المحللين يرون أن تأجيلا وإلغاء لبعض المشاريع بات محتوما. ويرى مايكل ستيفنز أن القطاع الخاص سيتضرر كثيرا، وقال إن الإجراءات الطارئة للمملكة تضر بقطاع خلق الوظائف مما يعني أن التعافي سيأخذ وقتا طويلا.
وهناك مشكلة موقف السعودية الدولي الذي تضرر من جريمة قتل خاشقجي والمحاولة الفاشلة للتستر عليها، وحتى السفير السعودي في لندن وصفها بـ”لطخة في سمعة” المملكة. وزادت المحاكمات والإدانات لعدد من المتهمين والتي برأت بعضهم النقد من منظمات حقوق الإنسان ومقررة الأمم المتحدة في قضايا القتل خارج القانون. ولكن السعودية بلد كبير واقتصادها مهم ولا يمكن للعالم تجاهله.
وأشار إلى حرب اليمن التي نفذتها السعودية من الجو وارتكب فيها طرفا النزاع جرائم حرب مزعومة، ولكن سقوط الضحايا المدنيين بسبب الغارات قاد لانتقادات واسعة للسعودية في واشنطن وأماكن أخرى. ولم تحقق الحرب إلا القليل ولكنها حطمت بلدا كان فقيرا في الأصل، وتراجع الدعم للسعودية في الكونغرس. ووجد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين حليفين مهمين يمكنه الاعتماد عليهما. ولكنه شن حرب أسعار مقصودة من خلال إغراق السوق العالمي بالنفط الرخيص تسببت في إزعاجهما بعدما أحدثت الحرب ضررا على اقتصاديات البلدين.
ولا تزال العلاقات السعودية- الإيرانية في وضع من الحرب الباردة مع أنها أفضل مع قطر المحاصرة. وفي الداخل يواصل الأمير خططه الاجتماعية من ناحية السماح للمرأة بقيادة السيارة والاختلاط في الأماكن العامة ودور السينما.
ويقول غاردنر إن السعودية تبدو اليوم، على السطح، أقل تشددا مما كانت تبدو عليه سابقا، لكن تحت السطح زاد القمع السياسي ضد أي شخص تجرأ على مساءلة السياسات بشكل يعرضه للسجن بتهم “تهديد الأمن القومي”. ولا تزال الإعدامات الجنائية جارية وهي قضية تثير انتقاد منظمات حقوق الإنسان. وفي الوقت الذي تعتبر فيه السعودية لاعبا مهما على الساحة الدولية، حيث ستستضيف مجموعة العشرين في نهاية العام، إلا أن حلفاءها يرونها شريكا غير مريح ومثيرا للحرج.
وعلى المستوى الداخلي يبدو محمد بن سلمان (34 عاما) في وضع قوي، فهو يحظى بدعم والده الملك سلمان (84 عاما) وحل محل ابن عمه الأمير محمد بن نايف في ولاية العهد وهذا واحد من عدد من الأمراء الذين اعتقلوا ونزعت عنهم القوة.
وفي الوقت الذي تنتشر فيه مظاهر التذمر بين السعوديين المحافظين بشأن طرق محمد بن سلمان وسياساته إلا أن هناك “مناخا للخوف” يجعل أي شخص مترددا في الحديث ونقد السياسات. ومقارنة مع سمعته في الخارج فهو يحظى بدعم في الداخل خاصة من الشباب الذين استفادوا من سياساته كما يقول السفير البريطاني السابق باتي. وجزء من هذه الشعبية نابع من النموذج الوطني الذي بات يغلب المشاعر الوطنية على الدينية، ولكن الجزء الأكبر منه يقوم على الأمل بأنه سيقدم لهم مستقبلا اقتصاديا زاهرا. ولو تلاشت هذه الآمال، وبعد خمسة أعوام من الآن لم يحصل الشباب على فرص العمل التي حلموا بها، فالسلطة المطلقة للعائلة المالكة ستبدو مزعزعة.