دول » السعودية

دين لا نعرفه

في 2016/03/30

عبد الرحمن اللاحم- الرياض السعودية-

أثناء الدراسة الجامعية وقبلها؛ كان المسجد أحد الأماكن المفضلة لجيلنا للمذاكرة، استعداداً للامتحانات حيث كان الأصدقاء يجلسون في المسجد للمذاكرة وتشجيع بعضهم على الاجتهاد في التهام المقررات، وعادة ما يكون في كل مجموعة (دافور) يكون المرجع لبقية الطلاب في استبيان ما خفي عليهم وشرح المسائل الصعبة، والاستفادة من مُذكّراته الخاصة، ويهيأ له مكان مميز، وتقرّب إليه القهوة والشاي، لأن خدماته في تلك الفترة قبيل الامتحانات لا تقدر بثمن.

في يوم من تلك الأيام قبل قرابة ربع قرن من يومنا هذا؛ كنت جالسا في المسجد بعد صلاة الفجر أحفر في (الروض المربع) وهو الكتاب المقرر علينا في كلية الشريعة، لم يكن هناك أحد إلا العم ابوعبدالعزيز الموسى رحمه الله كان جالسا في مقدمة المسجد ممسكا بمصحفه المميز بحجمه الكبير ويقرأ منه، بالكاد كان يصلني ترتيله وأنا منهمك بكتبي في زاوية منعزلة من المسجد، وفجأة توقف عن التلاوة ودخل في موجة من البكاء الذي كان يقاومها بمحاولة إعادة التلاوة لكنه لم ينجح، فظل لدقائق يهلث بالدعاء والتبتل بخشوع وانكسار لله، ثم قام وصلى سنة الضحى، والتقط عكازه ومضى إلى منزله، يجلله الوقار والسكينة.

هذا جزء من برنامج ابي عبدالعزيز رحمه الله في كل يوم لم يتخلف عنه ابدا إلا لحظة أن اختاره الله إلى جواره رحمه الله، كان أحد نماذج العباد الزهاد التي كانت منتشرة، فكان في كل مسجد نسخة أو أكثر منهم، أناس زهدوا بهذه الحياة وذاقوا لذة الاتصال مع الله، أفنوا أعمارهم في العبادة والتزود بالعلم والإحسان إلى الناس، وأمسكوا عن فحش القول والإساءة إلى الخلق، لم يكن أحدهم يتعبد بالسياسة ولا يقحمون المنابر فيها، لأنهم كانوا يعتقدون أنها تلوث ديانتهم ونُسَكهم، ويكلون أمرها إلى ولي الأمر؛ الذي بايعوه على السمع والطاعة، لم يكن المسجد في تلك الحقبة قبل عدة عقود من الزمن كما كان يُروى لنا؛ بؤرة معارضة وتشغيب على قرارات الدولة والتأجيج ضدها، ولم تكن منابر الزمن الجميل منصة للتحريض على العنف والكراهية، والزج بأبناء المسلمين في مهاوي الردى، تحت رايات سوداء مضللة، بل كان المسجد مكانا للتقرب إلى الله، والتطهر من الخطايا والذنوب.

إلا أن فئة (الزهاد العباد) أو كما كانوا يسمون (حمائم المساجد) اخذت بالانقراض والتآكل على حساب بروز وعلو قدم وعاظ غلاة، غلاظ القلوب، سلب التطرف أفئدتهم حتى وصلوا في غيهم وتطرفهم إلى التعبد لله بالشتائم والسباب، واسقاط الآيات الواردة في القرآن في حق غير المسلمين المعادين على مخالفيهم من المسلمين، فهم بذلك يكفرونهم فيستبيحون أعراضهم قربة إلى الله، تماما كما يفعل الدواعش عندما يستبيحون دماء المسلمين؛ فهم يكفرونهم ثم يقتلونهم، وهؤلاء يكفرونهم ثم يستبيحون شتمهم، فالجذر الفقهي واحد لا يختلف في الحالتين إلا أن غلاة الداخل يخشون من سطوة القانون وسلطة الأمن فلا يتجاوزون الشتم والقذف ونهش الأعراض إلى استباحة الدماء، أما إخوانهم في الرقة فهم يعيشون في دولتهم وأنظمتها التي تبيح ذلك وتأمر به، وهي ذات الأنظمة التي يحلم الغلاة هنا بتمريرها وترسيخها.

كان أحدنا إذا غلبه الشيطان وسب أحدا وندم على سبابه بعد أن يهدأ غضبه؛ يتعوذ من الشيطان الرجيم ويتوب ويستغفر ويعتذر ممن سبه أو شتمه، لأننا نعتقد أن تلك الأعمال القبيحة هي رجس من عمل الشيطان، حتى جاء هؤلاء الغلاة فجعلوها قربة إلى الله زورا وبهتانا، ووصلوا إلى هذا الوادي السحيق من التطرف يوم أن تركناهم عبر عقود من الزمن يتورمون ويتمددون ويغالون في تشويه هذا الدين وسماحته، حتى خلقوا ديناً لا نعرفه، ديناً يأمر بالتشمت من الأموات، والتلذذ بانتهاك الأعراض، وإجازة الكذب والتدليس، وبدل أن نميط الأذى عن طريق المسلمين بإبعادهم؛ نجد من يرمزهم وينصب لهم المنابر في بيوت الله من أجل أن يتقيأوا ذلك القيح، ويلقنوه لأطفالنا.

الإرهاب أيها السادة ليس مجرد رصاصة، وإنما هو في البداية (كلمة) تترجم إلى رصاصة تستقر في جسد موحد لم يكن له ذنب إلا أن الغلاة غضبوا عليه فكفروه وأهدروا دمه، فجاء من يترجم تلك الكلمة ويحولها إلى رصاصة، لذا فإنه لابد أن نبدأ في محاكمة صاحب الكلمة المتطرفة التي انتجت لنا هذا الارهاب الأعمى إذا أردنا نقتلع (الداب وشجرته).