دول » السعودية

بذور الدعشنة

في 2016/03/30

د. طرفة عبدالرحمن- اليوم السعودية-

يبدو أن ظاهرة "الاحتساب المسيء" غير الرسمي الذي نشهده في مواسم التجمعات البشرية الكبيرة -كمهرجان الجنادرية الثقافي ومعرض الكتاب الدولي بالرياض- سيتواصل حتى آخر نفس لثلة المصابين بعلته، فرغم تصادمه مع السلطة النظامية، والاجتماعية الشعبية، إلا أنه لم يتراجع.! وليس موضوعنا قضية "الاحتساب العشوائي المسيء" بقدر ما أن قضيتنا الرئيسة وجود "فكر معتل" يحاول فرض مبادئه على الآخرين بطريقة غير سوية. هذا الفكر الذي خلق نوعا من العداء والكراهية بين بعض الفئات، بل إنه تجاوز ذلك إلى حد القتل وإزهاق الأنفس البريئة في أطهر الأماكن.. لذا لا تتعجبوا عندما ترون أحدهم يشمت في الأموات ويتحدث عنهم بطريقة توحي بأنه يرى منازلهم في الآخرة، لا تستغربوا من أي سلوك يصدر متأثرا من تلك "البيئة الفكرية المختلة" التي تدعي أنها تمسك بزمام الدين القويم.. وعموما "الشماتة في الأموات" و"الاحتساب المرضي" و "السب والشتم تحت مبدأ الثأر للدين" كل ذلك وغيره؛ مثال لكيف تترجم بعض الأفكار والمعتقدات نفسها على هيئة سلوك وأفعال مشينة.. لب القضية يكمن في فكرة هامة أو ربما بمعنى أدق "بذرة" يتم زرعها في العقل منذ الصغر فتنمو لتصبح لدينا مشاكل عظمى على مستوى الأمم.. فالتكفير والإرهاب والكراهية والطائفية تنشأ من تربيتنا في مراحل الطفولة والمراهقة، وهي مجموعة مفاهيم ومترادفات يعود منشؤها إلى الاستناد على اعتقاد فكري يصنف الناس في فئتين؛ الأولى مهتدية والثانية ضالة. والأولى هي الناجية من النار وهي من تصنف الثانية. ورغم انها (اي الأولى) تعتقد يقينا ان الثانية في جهنم وبئس المصير إلا انها تصر ان تجعل حياتها جحيما في الدارين، فلا ترد نفسها عن التحريض ضدها والتأليب عليها بل والتفجير فيها أحيانا!! وفي المجمل لا يمكن في الوقت الراهن السيطرة على هذا النمط الفكري إلا في حدود نظامية معينة ومعقدة.. لكن ربما سنصل إلى درجات عالية من تقويم الوضع مع الجيل القادم لو أوقفنا زرع بذوره في العقول.. ستكون مفاجأة أو صراحة مباشرة لو قلت إن ثقافتنا العامة وعبر سنوات طويلة وحتى هذه اللحظة ساهمت في وضع هذه البذور في عقول الكثيرين منذ مرحلة الطفولة –على الأغلب بدون قصد- وذلك عندما تعامل الناس ضد بعضهم بنوع من الوصاية على سلوكهم، فمعظم الأفراد على العموم يراقبون بعين سليطة- أفعال غيرهم ويغلظون من أخطائهم أو تصرفاتهم أو أفكارهم حتى لو كانت في نطاق خصوصياتهم، يضعون أفعالهم في ميزان الحلال والحرام ويتعاملون معهم بهذا المنطق.. وعندما يدخل "التصنيف" و"فرز الناس" في خانات معينة من التقييم التطفلي، ندخل في مسألة "أنا الصح وانت الخطأ" "أنا الأفضل وانت الأسوأ".. ففرز الناس أو تصنيفهم والاعتقاد بخطئهم أو ضلالهم يعطي نوعا من الإباحة النفسية لكراهيتهم ونبذهم وهذا فيه نوع من التسويغ غير المباشر للاعتداء عليهم مستقبلا، خاصة إذا مافهمنا ان كثيرين يعتقدون ان الاعتداء على الضالين هو ثأر للدين والدفاع عنه.. نحن بطريقة متواصلة في حياتنا ندين معظم تصرفات الآخرين ونربي أبناءنا بضرب أمثلة عديدة على شخصيات نراها من (وجهة نظرنا) فاسدة أو ضالة، وهذه طريقة ترسخ في الأذهان عبر التكرار مبدأ أن هناك عاصين يفسدون الحياة الصالحة.. أمام الأبناء لا يجوز لنا تقييم الناس سلبا على الدوام ولا مراقبتهم ولا تصنيفهم، فهذا سلوك يحث بطريقة ما على استباحة حريات الآخرين وكراهيتهم، والكره شعور مقيت لا يستجلب خيرا.