دول » السعودية

القرني.. الوابلي.. لا تبتئسا فالناس أبناء ما يحسنون

في 2016/03/30

د. عبد الله بن موسى الطاير-

قديما قيل "قيمة كل أمرئ ما يحسن"، وينسب إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه في خطبة له قال: "وَاعْلَمُوا أَنَّ النَّاسَ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُون، وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئ مَا يُحْسِنُ، فَتَكَلّمُوا فِي الْعِلْمِ تَتَبَين أَقْدَارُكُم"، والتقط هذا المعنى الشاعر أبو العباس عبدالله بن محمد الأنباري الناشئ، ونظم فيه:

تأَمَّلْ بِعَيْنِكَ هَذَا الأَنَامَ فَكُنْ بَعْضَ مَنْ صَانَهُ عَقْلُهُ

فَحِلْيَة كُل فَتى فَضْلهُ وَقِيمَةُ كُلّ امْرِئٍ نُبْلهُ

فَلا تَتَّكِلْ فِي طِلابِ الْعُلا علَى نَسَبٍ ثَابِتٍ أَصْلُهُ

فَمَا مِنْ فَتى زَانَهُ قَوْلهُ بِشَيْءٍ يُخَالِفهُ فِعْلُهُ

ويشتكي ابن طباطبا من لائميه فيقول شعرا:

حسود مريض القلب يخفي أنينه

ويُضحي كئيب البال عندي حزينه

يلوم علي أن رحت للعلم طالبا

أجمِّع من عند الرواة فنونه

فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي

فقيمة كل الناس ما يحسنونه

كتب أحمد أمين في مصنفه الأخلاق "إن في باطن الإنسان صورتين: هما الوسواس والوجدان، وكلاهما صوت لرغبات مقموعة، ذلك أن لدى الإنسان عاطفة الخير وعاطفة الشر، فإذا قمعت عاطفة الشر سُمع الوسواس وهو داعية إلى الشر، وإذا قمعت عاطفة الخير سمع صوت الوجدان يتألم من الشر وينادي بعمل الخير، فالوسواس صوت الشر إذا تغلب الخيرَ، والوجدان صوت الخير إذا تغلب الشر. والإنسان الخيّر هو من أحيا عواطف الشفقة والعدل والكرم وقمع أضدادها".

إن المجتمعات تمرض، وهناك مسببات لمرضها، ومعايير علمية لتشخيص الأعطاب التي تصيبها. وقد سجلت وسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا الحاضر مستوى الانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه جمع من الناطقين باللغة العربية. وتراجع الأخلاق دليل على سقم العقل الجمعي، وما أصابه من ضرر، وهو مؤشر على ذهاب ريح الأمة، وتراجع دورها الحضاري، فليس هناك أمة تضع لنفسها مكانا في التاريخ البشري إذا لم تكن الأخلاق عنوان العيش والتعايش والتعامل فيها.

إن مصابنا في أخلاقنا كبير، وصدماتنا فيها تترى على مدار الساعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر أمثلة لقبح أخلاق البعض وتسافر بها من الماء إلى الماء، لقد أصبنا في مقتل يا أمير الشعراء، فاقرأ علينا الفاتحة:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم            فأقم عليهم مأتما وعويلا

أقارن صورتين تجلت فيهما الأخلاق في أورع صورهما، فقد تحلق الصحافيون من بلاد عربية وأعجمية حول الشيخ عبدالعزيز بن باز ذات نهار في قصر المؤتمرات في الرياض ونحن في انتظار لقاء الملك فهد -رحمهما الله- إبان احتلال العراق الكويتَ عام 1990م. بعض الصحافيين والكتاب يلتقون الشيخ ويسمعون منه لأول مرة وجها لوجه. فغلب الطبع الصحفي على أحدهم ورغب في عنوان لافت لوسيلته الإعلامية، فسأل -من ضمن ما سأل- مستغلا ذلك اللقاء النادر عن رأي الشيخ في عالم معاصر يصفه وعلماء المملكة بأنهم علماء الحيض والنفاس. فتبسم ابن باز وقال: لو لم يكن له من الفضل سوى حفظه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفاه. أما الصورة الأخرى التي لا أمل تذكرها ولا أكف عن روايتها فقد كانت للدكتور غازي القصيبي رحمه الله، حيث كنا نجتمع حوله في أكاديمية الملك فهد في لندن، فسأله أحد المبتعثين عن رأيه في عدد من المشايخ ممن كان له معهم صولات وجولات، وعلى إثر تلك المبارزات الفكرية خرج مصنفه "حتى لا تكون فتنة"، وكانوا حينها في السجن، فرد ردا لم يتوقعه أحد حيث قال: هم الآن في السجن، ونسأل الله أن يفك سجنهم، وبعد ذلك نتحاور، فليس من المروءة أن أتحدث عنهم وأنا حر طليق وهم في التوقيف.

وعندما توفي -رحمه الله- خرجت أصوات تتشفى في موته وترى أن تلك هي النهاية التي يؤول إليها أمثال القصيبي، غافلين أن الموت نهاية كل حي بدءا بالرسل والأنبياء وانتهاء بنا معاشر الناس. فالموت ليس عقابا ولكنه قدر محتوم (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).

وهذا الأسبوع توفي الدكتور عبدالرحمن الوابلي فأطلق الحقد سهامه متشفيا، في تغريدات لا تصدر عن خلق قويم، وإنما هي أعراض لأمراض متأصلة في نفوس دنيئة حرمها الله مكارم الأخلاق، وفي ذلك عدوان، وقد حرم الله العدوان، فإن كان لأحد مظلمة فليدع الله أن ينصفه وليس ببسط التشفي والدعاء بالطرد من رحمة الله.

ومن نافلة القول إن دعاءهم لا يتجاوز ألسنتهم إن لم يرتد عليهم، ولكن الذي يعنيني هنا هو سفالة الخلق وانحطاط القيم.

هذا الداء الذي يفتك بالمجتمعات العربية ويصدر من أناس يتوسم فيهم الخير، ويقدمون أنفسهم على أنهم حراس الفضيلة، وأنهم حماة الدين والأخلاق لم يسلم منه أحد اختلفوا معه في الرأي، حيا أو ميتا. فالأديب الشيخ عائض القرني تألم لمصابه المحبون له والكارهون، والموافقون والمخالفون لفكره، ومع ذلك خرج علينا من يعرض به ممن هو أولى به إذا كان كلام الله هو النهج المتبع عندهم في تولي المؤمنين بعضهم بعضا.

ليس هناك من قانون يعاقب على سوء الأخلاق، وإذا كان كل إناء بما فيه ينضح، فليكن معلوما أن ما تنضح به نفوسهم وتنطق به ألسنتهم لا يصدر عن إيمان راسخ، ولا نفوس سوية، وإنما عن بشر يتاجرون بالدين، ويتكسبون بمظاهرهم، ويحشدون مشاعر الناس لأغراض في نفوسهم عن طريق رفع خطاب يستهوي العامة ويحرضهم ليس على الخير وإنما على تدمير ما بقي من قيم وأخلاق في هذا المجتمع. والأولى ألا يتصدرون المشهد العام قبل أن يستشفوا من أمراضهم.

رسولنا صلى الله عليه وسلم مثال في القيم والأخلاق (وإنك لعلى خلق عظيم)، ويقول صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فهل اقتدينا به "عمليا" في التسامي فوق الخلافات الشخصية والفكرية والطائفية؟