ملفات » رؤية المملكة السعودية 2030

السعودية الجديدة: قبلة سياسية واقتصادية!

في 2016/04/27

يوسف الديني- الشرق الاوسط السعودية-

تتطور الأحداث بشكل متسارع في المنطقة٬ إلا أن الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السعودية يتخذ خطوات متسارعة لم يألفها السياق المحلي ولا الخطابات التي كانت متسّيدة في الفضاء العام وأهمها الإسلام السياسي الذي ما زال لم يحسم أمره على مستوى الاندماج في النسيج الوطني باعتباره جزًءا منه وليس طارًئا عليه عبر آيديولوجيات متبناة أو خارجة عن جسد الدولة على المستوى المفاهيمي أو السلوكي.

تطور التحديات يوًما بعد يوم في واقعنا المحلي٬ ينبئ بضرورة ولادة خطاب ديني يرتكز على إعادة تعريف وَمْوَقعة المفاهيم الدينية المعتدلة لتحل بديلاً عن خطاب الأزمة الذي لم يخرج منه الإسلام السياسي حتى الآن٬ رغم أن فشل حضوره على المستوى السياسي سواء في شكل حزب أو نظام حاكم أو حتى كمعارضة يعد جزًءا من نسيج الدولة وليس كتلة مفارقة لها٬ وبنظرة إجمالية على مخرجات «الخطاب الديني» المؤثر على الشارع تؤكد أن التشدد والتطرف الفكري لم يبرح منصة توجيه هذا الخطاب٬ لا سيما إذا ما أدركنا أن صناعة هذا الخطاب وتحويله إلى منتج قابل للانتشار عبر مصادر التلقي هو جزء من وهج مرحلة الصحوة وصعود خطاب الإسلام السياسي في مرحلة غاب فيها صوت الاعتدال الشرعي إلا نزًرا يسيًرا أشبه بصوت منفرد في واٍد٬ لا سيما بعد تراجع كبير على مستوى المرجعيات الدينية الرسمية وصعود لخطابات التطرف على المستوى الديني والسياسي.

وإذا كان الصعود السياسي للسعودية مستوعًبا في ظل تطور الأحداث في المنطقة٬ فإن تراجع أسعار النفط ألقى بظلاله على التحديات الاقتصادية التي تم التعامل معها وفق استراتيجية معتادة في التعامل مع التقلبات النفطية من خلال المساهمة في تصحيح الأسعار٬ والتعامل مع تفاعلات سوق الطاقة في المدى القصير٬ ورسم رؤية على المدى الطويل تهدف إلى الدفاع عن الأسعار في الأوقات الصعبة والتعامل مع الإنتاج والحصة السوقية بتوازن.

ما مناسبة هذا الحديث الآن٬ بينما ينشغل السعوديون بتلمس خطاب تنموي على إيقاع نضوب النفط وضرورة إصلاح الرؤية الاقتصادية بمعناها الشامل٬ يمكن الجزم بأن ابتلاع هذا الإيقاع السريع لتطور المجتمع وتحولاته من دون رافعة فكرية سينتج لنا شخصيات مأزومة بين التلقي الواعي لقيم العصر الحديث والارتهان لخطاب متشدد أنتج في مرحلة «مأزومة» بدأت في الزوال٬ لذلك كل الخطابات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مشهدنا العربي والمحلي٬ ما هي إلا جداول صغيرة لا يمكن أن تتحرك مياهها من دون مياه تجديد تصب في النهر الديني.

الاستقرار التي يدرك السعوديون قيمته في ظل تصدعات تعيشها المنطقة يجب أن يترافق مع قراءة للتحديات والتحولات التي تمّر بها المنطقة٬ والتي تؤثر بالطبع على طبيعة الحراك السياسي والاجتماعي في الخليج أكثر من أي وقت مضى بسبب طفرة وسائل الاتصال وهشاشة المحتوى.

التطور اللاهث للأحداث في السعودية انعكاس لتحول كبير يجري في بنية المشهد الخليجي٬ ليس فقط على مستوى السياسات العامة التي تمسك بزمامها الدول٬ ولكن تحول على مستوى مكونات المجتمع الخليجي السياسية والاجتماعية بسبب تحول جذري وراديكالي في مصادر التلقي والخطابات السائدة٬ أولاً هناك تراجع للإسلام السياسي وخطاب الصحوة لصالح خطابات منسلّة جديدة تحمل «هوّية» سياسية مركبة وغير متجانسة٬ فهي من خلفيات صحوية في تكوينها الثقافي٬ لكنها متجاوزة للمقولات المؤسسة كالحاكمية ودولة الخلافة وشعار تطبيق الشريعة... وغيرها٬ ومن هنا وقعت في فخ «الإحلال» غير الواعي فاستبدلت بالخلافة دولة القانون٬ وبالكاسيت والمنابر حسابات «تويتر» والـ«سوشيال ميديا»٬ واستبدلت بالأسر التنظيمية الشبابية والمنشورات الـ«هاشتاغ» والغروبات الإلكترونية التي ترسل المحتوى ذاته بنفس تكنيك الحشد وآلياته القديمة٬ وهو ما جعل المشهد برمته يختلط فيه الحابل بالنابل٬ السياسي بالديني بالحقوقي بالراديكالي٬ وصولاً إلى منافسة تيارات عنفية تقتطع لها حّصة جديدة من كعكة «الإعلام الجديد».

هذا الارتباك سيعيدنا إلى حالة مفاهيمية مشوهة تشبه إلى حد ما مرحلة الإحلال الأول التي ولدت مع الإسلام السياسي٬ ولكن في أطر فكرية وثقافية واجتماعية وليست سياسية٬ فالتصنيفات المبكرة حول قضايا العلم والحريات والإعجاز العلمي والتغريب والموقف من الآخر كانت نتاج عملية إحلال مأزومة تعيد نفسها اليوم٬ ولكن في عالم السياسة وليس الاستحواذ الثقافي الاجتماعي الذي سلم مفاصل المجتمع ومكوناته لخطاب إسلاموي حديث ومستنسخ من تجربة الإسلام السياسي الحديثة جًدا٬ وفي النهاية تكون في المنطقة ما يشبه مفهوم الدولة العميقة٬ ولكن في سياق مجتمعي بات معه من الصعب التجاوز إلا بأجيال جديدة تنفست بعيًدا عن الهواء المؤدلج٬ ولكنها الآن تنشأ على خطابات جديدة تتسم بالفوضوية وأزمة المحتوى٬ وهو ما يلقي بمسؤولية أكبر في إنتاج برامج وسياسات طويلة المدى ذات تأثير اجتماعي يلائم أولوية الأمن الصاعدة وبمباركة المجتمع الدولي.

فقهاء «الإثارة» ­ إن صحت التسمية ­ ظاهرة مستجدة في الخطاب الديني الحديث ألغت دور الواعظ التقليدي أو حتى التي كانت تملأ الفراغ وتسد الفجوة بين العلماء الراسخين والمجتمع الذي كان يعرف خصوصية كل فريق وإمكاناته٬ فلا يحمل الواعظ الزاهد فوق طاقته باستفتائه في قضايا كبيرة٬ لكن ظهور فقهاء الوجبات السريعة ولاحًقا فقهاء الإثارة٬ خلط الأوراق وأحدث ارتباًكا كبيًرا في الخطاب الديني المعاصر على مستوى المضمون والمرجعية٬ وهنا جزء مهمل عن تراجع الخطاب الديني التقليدي الذي سبب فوضى في الطرح الديني المعتدل بعد أن توقف إنتاج الفقيه عبر التراتبية الشرعية عبر التاريخ للمدارس الكبرى في التاريخ الإسلامي٬ ما يعانيه الواقع اليوم هو إهمال صناعة «الفقيه»٬ والصناعة هنا ليست مجرد التبني الواعي٬ وإنما الحفاظ على التقاليد العريقة لإنتاج القامات الفقهية الكبيرة٬ وهنا يجب التمييز بين الفقهاء والدعاة٬ باعتبار أن الفقيه هو منتج للفتوى٬ بينما الداعية ناقل لها٬ ولكن ارتخاء وضمور النظر الفقهي عن ملاحقة إيقاع العصر السريع والآني٬ إضافة إلى بيروقراطية جهاز الفتوى في كثير من المؤسسات الدينية في العالمين العربي والإسلامي أفرز لنا واقًعا مشوًها تخلى الفقيه فيه عن دوره في المسائل الحضارية المعاصرة٬ بحيث اقتصر دوره على الترجيح وإعادة الإنتاج لمسائل فقهية قديمة من دون التدخل في تبيئتها لهذا العصر٬ أي جعلها مناسبة للبيئة المعاصرة٬ بينما تحول الدعاة الجدد بأنواعهم المختلفة إلى قيادات فكرية تتولى قيادة الخطاب الديني العام٬ وهنا الأزمة التي يرافقها ارتفاع الطلب وقلة العرض٬ ومع توالد القنوات الإعلامية وكثرة الطلب على البرامج الدينية بات الأمر يقترب من حدود «الكارثة»٬ لكن لا يلتفت لها بحكم أن «الشهرة» في النهاية تصب لصالح عدد محدود من قائمة الطارئين على مجال «الفتوى» والبرامج الدينية. ما أود قوله بوضوح أنه لا يمكن أن نكون قبلة سياسية واقتصادية٬ دون أن نكون قبلة في الاعتدال الديني والتسامح.