مجتمع » ظواهر اجتماعية

أسر لاتعرف أبناءها..!

في 2016/07/05

منذ ان ارتفعت الأسوار وأحاطت الأسيجة الحديدية بالنوافذ المغلقة وأصبح للجد والجدة يوم محدد للزيارة كل أسبوع أو حتى أسبوعين انخفضت قيمة الأسرة، وأصبح لكل بيت باب من حديد مغلق على الخصوصية ومسدود دون الحميمية والعلاقات الدافئة وأصبح للبّر معنى مختلف يتلخص في نفحة مالية أو مكالمة على عجل أو سؤال عابر أو حتى زيارة ينشغل أصحابها نصف وقتها أو يزيد في متابعة الهواتف الذكية وقراءة رسائل التواصل الاجتماعي.

تغير بناء الأسرة وتغيرت حياتنا تبعاً لهذا التغير وجاءت إلينا العوالم المفتوحة بحواجز وهمية لاتزال ترتفع بيننا حتى اقتحمت البيوت الصغيرة، وجعلت لكل أفرادها على قلتهم عالماً خاصاً بكل واحد فيهم ولم تعد الأمومة والأبوة والبنوة تحمل كل تلك الهالة الفريدة التي مازلنا نتذكرها ونتغنى بها ونتوهم أننا نعيشها كما كانت.

مسافات متباعدة

ابتهال شابة في العشرين من عمرها لم تترك هاتفها للحظة وهي تتحدث معنا عن مفهومها الخاص للأسرة قالت وهي ترد على رسالة واتس: يحب الكبار أن يتحدثوا كثيرا عن الماضي حين كان الابناء طوعاً للأباء، والآباء جزءاً أصيلاً من حياة أبنائهم ولكن ان أردتِ الحقيقة لا اشعر حقا بهذه الأسرة التي تتحدثون عنها، امي امرأة عاملة معلمة تربي النشء وهي امرأة رائعة مع طالباتها ويحببنها كثيرا ويعشقن دخولها عليهن الفصل ويستمتعن بحديثها وتعليماتها وطريقة تدريسها ولكنهن لا يعرفنها الا ساعة الا ربع كل يوم أما أنا فلا أكاد اعرفها وكلما مضى يوم في حياتي زادت بيننا المسافات أكثر فأكثر حديثها معي يكاد ينحصر في الأوامر والنهي، وتخبرني دوما عما ينبغي أن أفعل وأن لا افعل لكنها لا تسألني ابدا عما اشعر به او اريده او ارفضه او اشك فيه، يخيفها جدا ان اتحدث في أي موضوع يهز قناعاتها وتعتقد انني طفلة ويجب ان اسمع ما تقول وان انفذ ما تأمرني به دون نقاش وهي لا تصدق انني كبرت وانني ربما اعرف وأفهم من الحياة اكثر مما تتخيل.

بيت واحد

اما محمد الشاب الذي تجاوز الخامسة والعشرين من عمره ولم ينه دراسته في الجامعة المفتوحة حتى الآن، يحب أن يطيل شعره ويسهر كل يوم مع أصحابه حتى الفجر فيقول بكثير من اللامبالاة: الاسرة هي أبي وأمي وأخوتي، هكذا تعلمت منذ الصغر ولكني لا اكاد ارى ابي ولا اتحدث مع أمي ولا اعرف الكثير عن اخوتي، نحن نعيش في بيت واحد ولكن لا تجمعنا أية مشتركات حتى طاولة الطعام لا تقربنا من بعضنا البعض وافضل ان اتناول البرجر عن اية وجبة تصنعها امي ولا اعرف لماذا تتعب نفسها بالطهو في حين ان المطاعم تصنع كل شيء.

ويضيف: أنا بالطبع احبهم ولا اريد ان يحدث لأي منهم أي مكروه لكن وظيفتي في المنزل لا تتعدى ان اجلب لأمي الطلبات وان اصطحب اخواتي للسوق وان أقبل رأس أبي كلما دخلت المنزل وأن أسمع منهم الكلام المكرر عن الدراسة والفشل، وفلان الذي هو افضل منى وأكثر اهتماما بمستقبله.

غياب التفاهم

السيدة حنة -أم في الخمسين من عمرها- لديها ثلاثة أبناء ولدان وبنت الاولاد تزوجوا والابنة لا تزال في الجامعة تقول بكثير من الحيرة: لم تكن الحياة فيما سبق بكل هذا التعقيد، كنا صغارا وكنا شباباً، وكانت لنا أحلامنا وأفكارنا لكننا كنا ايضا أبناء لآباء -رحمهم الله- وكنا نفهم أباءنا من نظرة عين وكنا نراعي مشاعرهم ونبذل جهداً لارضائهم، وكم من أحداث مرت علينا لكننا كنا أيضاً قريبين منهم نعتذر ونشرح ونسمع ونفهم كنا نضحك معا ونحزن معا ويشغلنا ماذا أعدت لنا أمنا من طعام ومازلت أنا واخوتي حتى الآن نجتمع أسبوعياً فلا تخلو اجتماعاتنا من تذكر أحداثٍ كثيرة مشتركة عشناها معا، ابنتي التي تعيش معي الآن أكاد لا اعرف حتى ملامحها التي اختفت في ضوء جوالها الذي لا يغادر يدها وحين أحاول أن أفتح معها موضوعاً ترد باقتضاب وأعتقد أنها لم تعد تراني أما الاولاد فمنذ أن تزوجوا وصارت لهم حياتهم أصبحت لا اعرف عنهم شيئاً ربما تذكرونا في المناسبات أو حين يحتاج أيٌ منهم لمال يكمل به مشروعا بدأه، والاحفاد على قدر حبي لهم لا أرى فيهم الطفولة التي كنت أعرفها، يتحدثون في أمور كثيرة لا يعقل ان أطفالاً لم يتعدوا الخامسة والسادسة من عمرهم يعرفونها، يبكون اذا أخذ منهم أباؤهم الأجهزة اللوحية كـ(الآيباد)، ويستطيعون التعامل مع اجهزتهم أفضل مما أستطيع أو أفهم.

ثمرة الوقت

من جانبها أكدت خزاري الصايل -مستشارة نفسية- على أن وجود مساحات من الفرقة بين الآباء والأبناء ظهرت خلال السنوات الخمس الأخيرة وتحديداً مع ظهور وانتشار اجهزة الهواتف الذكية، وما تحمله من برامج تواصل اجتماعي، فمعاناتنا تنبع من إهمال جانب التوقيت في حياتنا وحل هذه المشكلة أيضا يكون بإعلاء قيمة التوقيت والتعويل عليه، ولأبيّن هذه النقطة أقول إن العبرة في اجتماع أفراد الاسرة ليس في عدد الساعات الطويلة التي نقضيها معاً وإنما جدوى الوقت وأهميته ومانفعله خلاله، قد تلبث أم مع ابنائها اربعة وعشرين ساعة تفرغ كامل لهم غير أنها في واد وهم في واد، فلا مساحات حوار ولا أشياء مشتركة معهم، وبالمقابل قد تمكث أخرى مع ابنائها عشرين دقيقة فقط كل يوم تستثمرها استثماراً جيداً فتزرع فيها كل قيم التواصل والتواد والتراحم لتصنع جيلاً من الواعين الرحماء المحبين المتواصلين العبرة إذن بالتوقيت وكيفية التعامل مع الزمن.

وتضيف: أنا أعول كثيراً على الأم وأضع على عاتقها أغلب المسؤولية ولعلي هنا لا احمل الأب أكثر من 20% من المسؤولية، فيما تتحمل من وجهة نظري الام الثمانين الباقية، وهذا لأنها هي من ينبغي عليها وضع الاستراتيجيات ليوميات أسرتها وأيضاً وضع آلية تنفيذ هذه الاستراتجيات التي من شأنها مع الانتظام أن تتحول إلى وسيلة بناء للأسرة من جديد وإعادة هيكلة الفرقة والتشتت الذي يعيشه الابناء، فمثلاً أنا أخصص من يومي ساعتين من السادسة حتى الثامنة مساء، انحي خلالهما الهواتف جانبا وبشكل حازم لا تهاون فيه فلا احمل الهواتف ولا يحملها أبنائي، وخلال هذا الوقت المستقطع من زحام اهتماماتنا وانشغالاتنا نعيد بناء أواصر علاقاتنا ونقترب من بعضنا نتناقش ونتشارك ونتساعد ونتفاهم، فلابد لوقت مثل هذا أن يحمل مع التكرار حواراً مهماً ينبغي أن يجري وتكاشفاً ملحاً ينبغي أن يحدث وصلةً قويةً ستبنى من جديد، لذا انصح كل ام ان تحدد مبدئياً فترة 20 دقيقة يوميا تمنع خلالها وجود الهواتف وتفتح فيها حواراً مع أطفالها وتبادر الى تقديم كافة اشكال العاطفة لهم من احتضان وتقبيل ودردشة وأن تتشارك معهم في إعداد الوجبات وتطلب مساعدتهم في ترتيب المائدة ومن ثم رفعها وتبدأ معهم حوارات بسيطة يمكن أن تكون استدراجاً لطيفاً لحوارات أهم وأعمق فيما بعد.

اشباع عاطفي

وتمضي الصايل قائلةً: من ناحية أخرى فانني أفسر ما نلاحظه من فرقة بين أفراد الأسرة وابتعاد يأتي بسبب انشغال الأم بهاتفها أنه بحث بطريقة خاطئة عن الاشباع العاطفي والعكس صحيح فالابناء ايضاً يبحثون عن الاشباع العاطفي مع أجهزتهم بعيداً عن اجواء افعل ولا تفعل التي لا يجدون غيرها في البيت كل الاطراف تبحث عن الاشباع العاطفي، وحين نعرف العلة يسهل العلاج، الحل في تقديم الاشباع العاطفي لكل افراد الاسرة وخطوة اعادة التواصل التدريجي من خلال العشرين دقيقة ستقدم حلاً جميلاً لكل الاطراف فحين يشبع الأبناء عاطفيا ستشبع الأم عاطفياً بمحبتهم بقربهم باهتمامهم من جديد، واستعيدوا معي ما كانت تفعله الجدات حين كن يجدن الوقت لالقاء الشعر وحكاية الطرف مع كل مسؤولياتهن اللاتي كن يؤدينها على أكمل وجه مع عدم وجود أي وسائل راحة كما في زماننا، من أين كن يأتين بكل هذه القوة والقدرة والطمأنينة النفسية، لقد كن مشبعات عاطفياً واستطعن بنفوسهن العامرة ان ينقلن احساس الاستقرار والاطمئنان إلى من حولهن، اليوم الامر اختلف وأصبحت الأم متوترة عصبية مستعجلة مشغولة وهي تنقل كل هذا لابنائها دون أن تشعر فيصبحوا بدورهم عصبيين نافذي الصبر غير قادرين أو مهتمين بمراعاة معنى الاسرة ومعنى التواصل الاسري ويستعيضون عنه بعالمهم الافتراضي وبالاصدقاء وبخيالاتهم، لذا على الأم ان تعيد الإمساك بزمام حياتها وحياة من تحب وتعيد الأمور الى نصابها تدريجياً بالحب والحنان والمشاركة والتدرج في إعادة أفراد أسرتها إلى عالم المودة من جديد.

وكالات-