سياسة وأمن » حروب

سوريا في مواجهة خطر «الوهبنة» بحد السيف

في 2016/08/24

منذ اندلاع الأزمة السورية والكثير من وسائل الإعلام الغربية والعربية، فضلاً عن عدد من الجماعات المسلحة، تبذل قصارى جهدها من أجل إظهار البعد الطائفي للصراع كجانب أوحد، فهو بحسب رأيها صراع ما بين أكثرية الشعب السوري «السني المضطهَد»، وبين نظام «علوي مستبد وظالم».
الوجه المضمر للحرب:
نهش الهوية الثقافية لسوريا
في الواقع٬ تستهدف المنظمات السلفية الهوية المذهبية لا الطائفية لهذا الشعب العريق. فالمسلمون السنة السوريون ينتمون عقائدياً بغالبيتهم إلى المذهب الأشعري، وفقهياً إما إلى المذهب الحنفي أو الشافعي. علماً أنّ هذا الاستهداف ليس جديداً، ومقاومته أيضاً قديمة، من مواجهة أفكار ابن تيمية في القرن الثامن الهجري، إلى مقاومة الهجمات التي شنها الوهابيون العام 1810 على جبل حوران. يومها وصل الأميـر «سـعود الكبير» إلى مشارف دمشق، لكنها صدته فعاد خائباً «فأرعب بذلك سـكانها، ورأى بذلك وللمرة الأولى في حياته الثلوج على قمة جبل حرمون». (التهديد الوهابي لبلاد الشام وأثره في تولي سليمان باشا ولاية دمشق، مجلة جامعة الأزهر ـ غزة، سلسلة العلوم الإنسانية، 2007، المجلد 9).
أغلب علماء سوريا في النصف الثاني من القرن العشرين حتى أيامنا درسوا في الأزهر. فبحسب رضوان السيد «ينتمي وهبة الزحيلي (وأخوه محمد والبغا والنابلسي والبوطي وأديب الصالح والعتر وآخرون كثيرون من جيلي السبعينيات والثمانينيات) إلى فقهاء التقليد الإصلاحي الإسلامي الذي استقر بالأزهر أيام شيخه محمد مصطفى المراغي وشيخه مصطفى عبد الرازق» (رضوان السيد: الشيخ وهبة الزحيلي والتقليد الفقهي و «الثورة» السورية. الشرق الأوسط، 14 آب، 2015). لذلك لم يكونوا على وفاق مع علماء المنهج السلفي وخاصة الوهابي منه٬ وأغلبهم وجّه انتقادات حادة لعلماء السلفية كالألباني وسواه. يقول الشيخ البوطي: «ابن تيمية يكفّر خصومه لأدنى المواقف الاجتهادية التي قد يخالفهم فيها». (البوطي محمد سعيد رمضان، السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، دار الفكر، دمشق، 1988، ص 166).
وإذا كان علماء السلفية غالباً ما يتهمون سواهم بالبدع والخرافات، فإن الشيخ البوطي يعتبر مذهبهم برمته مجرد بدعة: «من السهل عليك أن تدرك السبب الخفي في حصر «السلفية» الحق في وجهة نظرهم وحدها.. دوناً من سواهم، إذا علمت مدى ما يفعله التلاقي تحت شعار مذهبي مبتدع كهذا، من تهييج لروح العصبية، واستثارة لمشاعر الأنانية الجماعية، وإيقاظ للرغبة في الانتصار للذات٬ من دون أي التفات إلى ما تقتضيه موازين العدالة والموضوعية، وإلى أن الأصول الإسلامية ومناهج النظر والاجتهاد فيها، هي ـ لا أصول المذهب السلفي ـ الحكَم والمرجع للمسلمين جميعاً في ما يجب أن يتفقوا عليه وفي ما لهم أن يختلفوا فيه». (البوطي محمد سعيد رمضان، السلفية مرحلة زمنية، المرجع نفسه، ص256).
طيلة السنوات الخمس من الحرب في سوريا، عمدت المنظمات المسلحة الرئيسية، مثل «داعش» و «النصرة» إلى تدمير العشرات من أضرحة الفقهاء والأولياء، وإلى وضع مناهج تعليمية بديلة عن مناهج النظام ذات التوجه العلماني، ولو أن البعض يرى فيه توجهاً منقوصاً لاعتماده في المناهج التربوية برامج تعليم ديني تفصل بين المسلمين والمسيحيين. أما التعليم الديني لتلك الجماعات فيتبنى القراءة السلفية الوهابية، ضارباً بعرض الحائط الهوية المذهبية لغالبية أبناء الشعب السوري.
رسالة المحيسني:
التعاليم الوهابية كبديل للقومية
يمكن اعتبار كُتيب «رسالة إلى أهلنا في الشام»، المؤلَّف من 80 صفحة، وهو نداء وجهه القاضي العام لـ «جيش الفتح» الشيخ السعودي عبد الله المحيسني إلى الشعب السوري، نموذجاً لمناهج التعليم الديني السلفي. ينوّه المحيسني بأن الكُتيب المذكور، «يصلح لأن يُدرّس في الدورات والدروس وأن يكون بديلاً لمادة القومية في المدارس الحكومية التابعة للنظام».
في مقدمة هذه الرسالة يشدّد المحيسني على قدسية أرض الشام مستشهداً بعشرات المرويات٬ فهي «أرض الملاحم والأحداث العظام قبل قيام الساعة.. وأرض المحشر والمنشر». ويورد عدداً من أحاديث علامات الظهور وعودة المسيح وظهور الدجال وفقاً للقراءة السلفية. يبدأ حديثه عن مظاهر الشرك وصوره، بالتحذير الشديد من «الرضى بالديموقراطية وتحكيم الأغلبية بدل الشريعة الإسلامية»، داعياً أهل الشام إلى «الحذر ممن يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، فهؤلاء دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها». فالحكم بالديموقراطية، وفقاً لكلام المحيسني «ليس لله بل للأغلب٬ وهذا كفر بواح وشرك صُراح».
ويحشر المحيسني أنفه حتى في أصغر التفاصيل التي هي برأيه شرك وتعلُّق بغير الله، مثل «اتخاذ حلقة أو خاتم أو حبل أو أي حِرز بنية جلب الخير أو دفع الضر.. كتعليق العين الزرقاء التي تُرسم على البيوت والسيارات لدفع العين». ويصل الأمر بالمحيسني إلى اعتبار أنّ بعض الأمثلة التي يكثر استعمالها من قبل أهل الشام، تشتمل على الشرك، من مثل: «أنا داخل على الله وعليك»، أو «مالي إلا الله وأنت»٬ «الله لي في السماء وأنت لي في الأرض»، أو قول «يا محمد» على أسلوب التعجب٬ أو «شاءت الأقدار» أو «شاءت الظروف»، أو «لو أني فعلتُ كذا، حيث قد يصل إلى الشرك الأكبر لأنه اعتراض على قَدَر الله».
يعدد المحيسني مجموعة من صور الشرك ولكن المستهدَف الأساسي هذه المرة، يأتي في آخر اللائحة: «الحلف بغير الله، التوسل والحلف والاستشفاع بجاه النبي٬ اعتقاد تأثير الأبراج والنجوم والمطالع٬ موالاة الكافرين وتعظيمهم ومحبتهم: مصائب عظيمة ومنها التعلق ببعض الكفار، كاللاعبين والممثلين والمغنين٬ ومناصرة الكفار ومن ذلك، مناصرة النصيرية «العلويين» حتى لو كانوا أقارب وأصدقاء».
أما القسم المعنون بعبارة «همسات للمرأة المسلمة»٬ فيتضمن دعوة لابتعاد المرأة عن زيارة المقابر، والامتناع عن ابتداء الكافرات بالسلام وتبادل المودة معهن، وحرمة القيام بتهنئتهن بأعياد ميلادهن أو أعياد رأس السنة، «ومن مظاهر التبرج كشف الوجه أو وضع غطاء شفاف عليه»٬ وتحريم لبس «الباروكة واجراء عمليات التجميل لمجرد زيادة التحسين»٬ وحرمة تكرار الذهاب إلى الأسواق، وركوب المرأة مع السائق غير المحرم، وحدوث اختلاط بقصد التعليم، كأن يقوم الرجل بتدريس البنات أو بالعكس كأن تقوم المرأة بتدريس الرجال في المدارس والجامعات». علماً أن المحيسني يعلق على أغلب الأحاديث بالقول: «صححه الألباني»٬ وهذا غير معتمد لدى علماء سوريا الكبار، وأكثر الفتاوى التي يوردها تعود الى شيوخ وهابيين.
نقاوم أو نتلاشى
على مشارف مدينة حلب التاريخية، مدينة العلماء والفلاسفة والشعراء والموسيقى وفن الطبخ، يقف «شويخ» سعودي، بزاد فكري ضحل، يقتصر على حفظ مجموعة من الأحاديث الخلافية، تفوح من أفكاره وأعماله رائحتا الدم والنفط، متسلحاً بأطفال مغسولي الأدمغة، أو بمحبي الموت من أجل الفوز بحورية في سماء ما، مدعيّاً أنّه يهدي ويعلّم واحداً من أكثر شعوب الشرق عراقة وثقافة وتديناً، يلقنه ألف باء إسلام قاحل ومزيّف، وكأن المسلمين السوريين قد دخلوا في الإسلام العام 2011 أو مع تأسيس «جيش الفتح وأشباهه».
لقد حدث أن واجه الشعب المصري تحدياً مشابهاً لما يواجهه السوريون اليوم لناحية «الغزو الوهابي» بعد «حرب اكتوبر»، لكنه كان غزواً ناعماً بالبترودولار، وباستمالة العمالة المصرية وعدد من مشايخ الأزهر، ثم تعاظم مع تأسيس «حزب النور» وباقي الجماعات ذات الاتجاه السلفي. أما سوريا فتشهد اليوم عملية «وهبنة» بحد السيف وغسل عقول الأطفال والسذّج.
يصف كاتب السيناريو المصري الشهير، أسامة أنور عكاشة عملية «وهبنة» مصر بأنها «انسلاخ من الأنا والحلول في الآخر، ليس مجرد الانتقال من الأعلى للأدنى فحسب، بل هو التلاشي الفارط في السذاجة في هوية الآخر، من دون جدارة... هو شكل من أشكال الاختطاف والمصادرة الشاملة». (الخياط هيثم: أسامة أنور عكاشة: (وهبنة) الثقافة المصرية، «مجلة حركة مصر المدنية» 2، آب، 2011).
فهل سينسلخ السوريون ومعهم العرب عن هويتهم الثقافية٬ ليتلاشوا في بدعة جافة، مجافية لتأويلات الإسلام المتعددة، وبعيدة عن معاني التراحم والتنوع والانفتاح؟ أم تراهم سيواجهون هذا الخطر المحدق بحريتنا وحاضرنا ومستقبل أجيالنا وبلادنا؟

علي مزيد- السفير اللبنانية-