علاقات » دول أخرى

يوم رَسَت «جهانكير» في الحِجاز [1/2]: ماذا فعلت يا عبد العزيز!

في 2016/09/03

المُسلمون الهنود الذين ضربتهم العرب على الدين بدءاً، في فتوحات القرون الأولى، كانوا هم، قبل نحو قرن، مِن أبرز الصارخين نُصرة للدين نفسه على أرض العرب. مخروا عباب البحر إلى شبه الجزيرة، ناحية الحجاز تحديداً، دفاعاً عن «مهبط الوحي».

سكت آنذاك ما يُعرف بالعالم الإسلامي، أو قل أكثره، على جرائم عبد العزيز آل سعود. هو «السلطان» المؤسس للدولة السعوديّة الثالثة، الحاليّة، وقائد جيش الوهابيين، الفاتك، بسيوفهم، بأهالي الطائف ومكّة والمدينة، والمُحطّم بفؤوسهم، الآثار التاريخيّة والمقامات المُقدّسة عند أكثر مسلمي العالم.
كان الهنود، بحسب وثائق مِن تلك الحقبة، هم أصحاب الصوت الأعلى في رفض ما حصل. كان ذلك قبل انفصال باكستان عن الهند الكبرى. رفضوا «احتلال الحرمين» والدخول إلى الحجاز «فتحاً» (كما قال عبد العزيز مُجاهراً مُفاخراً).
وفد مِن أربعة أشخاص، هم: سيّد حبيب (مدير جريدة سياسة لاهور – رئيساً للوفد)، الحاج أحمد مختار صديقي (رئيس جمعيّة العلماء في بمبي)، ميان عبد العزيز (من تُجّار لاهور) وفضل الله خان (مدير جريدة رسالت – سكرتير الوفد). ركبوا على متن الباخرة «جهانكير» مِن مدينة لكهنو الهنديّة... إلى مكّة. هؤلاء هم الأربعة الذين اختارتهم «جمعيّة خدّام الحرمين» الهنديّة، لمهمّة تقصّي أحوال الحجاز وأهله، والتثبّت من أخبار الفظاعات التي طارت أخبارها إلى العالم. حصل ذلك مطلع عام 1926.
أبرقت الجمعيّة الهنديّة لـ«السلطان» عبد العزيز (لم يكن قد أعلن نفسه ملكاً سعوديّاً بعد) بأن الوفد قد اعتزم السفر إلى الحجاز. أهدافهم، وقد ذكروها في البرقيّة، واضحة ومحددة:
1- التحقيق في الأخبار المُذاعة عن الوهابيين.
2- معرفة رأي أهل الحجاز.
3- تحقيق علاقة السلطان بالدول وخاصة بريطانيا.
4- عرض مطالب مُعيّنة للإصلاح. هذا ما جاء، حرفيّاً، في الوثائق الصادرة عن الجمعيّة لاحقاً، بعد انتهاء المهمّة، والتي عُرفت بـ«المفاوضات الخطيّة المتبادلة بين وفد جمعيّة خدام الحرمين الشريفين الهنديّة وبين عظمة سلطان نجد» (ثمّة نسخة في أرشيف مكتبة الملك فهد الوطنيّة).
أبحر الأعضاء الأربعة بتاريخ 30 كانون الأول مِن عام 1925 فبلغوا مدينة جدّة في 22 كانون الثاني مِن عام 1926. في طريقهم، عندما وصلوا إلى مدينة عدن اليمنيّة، أبرقوا لقائمقام جدّة، تأكيداً على البرقيّة الأولى، فاستقبلهم هذا الأخير، باسم سلطانه، عند وصولهم ميناء جدّة. في مساء ذلك اليوم، قابلهم عبد العزيز، وقد «بالغ» في حفاوته بهم، قائلاً: «إنّي جئت جدّة لأجلكم». وعدهم أن يحصلوا على ما أرادوا، وأن يطلعوا على الوثائق التي تؤيّد استقلاله، إلا أن الوفد طلب أن تكون المفاوضات خطيّة، وذلك «لكي لا يحصل تحريف»... فقبل بذلك.

الرسالة الهنديّة الأولى

بعد شكره على الترحيب بهم، والثناء على إرسال ابنه «الأمير فيصل» إلى محلّ إقامتهم، في جدّة، وشرحهم ما وصلهم من أخبار (الجرائم) إلى بلادهم، كتبوا: «إنّا نرى هذا مِن واجباتنا، أن نظهر أيضاً أن مسلمي الهند، وإن كانوا تحت سيطرة القوة الأجنبية (بريطانيا)، ولكن هم متقلدون بقلادة الإسلام، فهم يرون مِن حقوقهم المذهبيّة أن يُفتّشوا أو يُحقّقوا عن شؤون الحجاز، وينظروا إلى حركات حاكمه، فإن وجدوه على الحق والعدل عاونوه على حسب استطاعتهم، وإن وجدوه على الباطل والظلم خالفوه بكل صراحة وقوة، وبعد هذا أملهم مع الله:
1 - خبّرونا عن الحالات الصحيحة بما وقع في الطايف من القتل والفتك والنهب. 2- هل أهل الطايف فتحوا أبواب البلدة على وعد الأمن لأنفسهم وأموالهم؟ 3- كيف ابتدأ القتل العمومي ومَن ابتدأ فيه؟ 4 - بينوا لنا عدد السادات والعلماء والأطفال والنساء الذين قُتلوا في الطايف. 5- هل صحيح بأن بعض الهاجمين ارتكب الفواحش مع بعض نساء الطايف؟ 6- هل نُهبت أموال النّاس؟ 7- أصحيح بأن المُفتِشين لما فتّشوا النّاس جعلوا النساء عراة وفتّشوا أجسادهن؟ 8– هل البقيّة مِن أهل الطايف حُبسوا ثلاثة أيام في بستان علي باشا المُسمّى شبره؟ 9– هل مُثّل بأجساد القتلى وجعلوهم عراة؟ 10– هل جرّت الحمير أجساد الشهداء لدفنها؟ (كان لافتاً أن الوفد وصف الذين قضوا على يد جيش عبد العزيز بالشهداء). 11- هل يستكره عظمة السلطان هذه الحادثة الفاجعة ويستقبحها؟ 12- ما أسماء المساجد التي هدمها العساكر (الجيش الوهابي)؟ 13– لماذا هدموا المآثر الإسلاميّة، وخصوصاً مآثر مكة المكرمة، فإن دخول العساكر كان هناك بالأمن والسلم؟ 14– من يكون المسؤول عن هذا الهدم والتخريب أمام العالم الإسلامي؟ 15– ما اعتقاد عظمة السلطان في ما يتعلق بهذه المآثر؟ 16- هل يعلم حضرة السلطان أن أكثرية المسلمين يريدون بقاء هذه المآثر؟ 17– لماذا خربوا مولد النبي ومولد سيدتنا فاطمة، وما حالهما الآن؟ 18- هل خربوا مزار أمّنا خديجة الكبرى وبعد تخريبها أساؤوا الأدب في شأنها؟ (تتكرّر صيغة هذه الأسئلة الأخيرة في أسئلة أخرى مستقلة، ضمن الرسالة نفسها، تُشير إلى المساجد والقِبب والأضرحة والمزارات). 19- ما الدليل (الشرعي) على جواز هدم القِبب؟ 20– هل أطلقت الرصاصات على قبر النّبي ومن أطلقها (في المدينة المنوّرة)؟ 21- هل شرب الدخان والسجاير ممنوع في مكّة المكرمة، وبأي دليل مُنع؟ 22- كم يدخل في خزينة السلطان من الضريبة على التنباك والدخان؟

23- هل يُسلّم عظمة السلطان بالحريّة المذهبيّة في الحجاز للمسلمين كلهم؟ 24- إن يكن يُسلّم بهذه الحريّة فلأي سبب وطأ الإخوان (الجيش الوهابي) كتاب دلائل الخيرات في شوارع مكة؟ 25- ما هي الضمانات التي يعرضها عظمة السلطان على العالم الإسلامي لأجل الحريّة المذهبيّة في الحجاز؟ 26- هل عظمة السلطان يرضى أن نعلن في البلاد الحجازيّة إعلاناً رسميّاً يُعطي فيه الحريّة المذهبيّة لكل مسلم، ويمنع أن يخاطب أحد الثاني بالكافر والمشرك؟ 27- هل أحد مِن الحجازيين محبوس لأجل الشبهة؟ 28- كم من أسلحة قبض السلطان بعد اختتام هذه الحرب؟ 29- هل يعلم عظمة السلطان أن المسلمين يرتابون فيه أنه سلّم بالسيادة البريطانيّة على نفسه وعلى بلاده؟ 30- هل عظمة السلطان يُكذّب هذا القول ويُنكر سيادة بريطانيا؟ 31- هل عظمة السلطان راضٍ أن ينشر المعاهدة النجدية - البريطانية التي تتعلق بشؤون نجد وشؤون الحجاز، حتى تطمئن قلوب المسلمين؟ 32– هل يريد نشر معاهدة سنة 1916 وسنة 1922 والمعاهدة المشهورة بمعاهدة بحرة وجدة؟ 33- كيف قبضت بريطانيا على العقبة ومعان؟ 34- هل أعلن عظمة السلطان أن هجومه على الحجاز كان لإخراج الحسين (الملك) وعائلته، ولمّا هم يخرجون منه يترك عظمته الحجاز للحجازيين؟ 35- أصحيح أن الحجاز أُلحِق بنجد، ولو صح فكيف يُطابق هذا العمل بذاك الإعلان الرسمي؟ 36- هل يُريد عظمة السلطان أن يُعطي الاستقلال للحجاز، وما هي التدابير التي أخذها في هذا السبيل، وبعد كم مدة يترك الحجاز للحجازيين؟ 37- ما هي التدابير التي أخذت لعقد المؤتمر الإسلامي؟ 38- متى أرسلت الدعوات لهذا المؤتمر، وفضلاً أعطونا نقولها؟».
ختم الوفد الإسلامي الهندي رسالته مؤرّخاً في 12 رجب سنة 1344 هجري
(1926).

في انتظار الرد!

بات واضحاً الآن لعبد العزيز، وحاشيته، أنّهم أمام جماعة تعرف ما تُريد جيّداً، وأنّهم، بلا ريب، أهل اختصاص ودراية في «الشريعة» والسياسة وما يجري في العالم. جماعة لا تنمّ أسئلتهم عن سطحيّة، كما كان رائجاً في تلك الحقبة، حتى على مستوى ما يُعرف بالنُخب، فضلاً عن الجرأة التي تحلّوا بها، وخطابهم المُهذّب لكن غير الموارب، وهذا ما لم يعتده "السلطان" يوماً ولم يألفه في محيطه. إذاً، إنّها لحظة اختبار جديد.
مرّ نحو أسبوع على الرسالة، والوفد الهندي في جدّة، من غير أن يصله جواب. كان التواصل، خلال تلك الأيام، قائماً بين الوفد ونائب (السلطان) عبد العزيز «الدكتور» عبد الله الدملوجي، حول قضايا أخرى سيأتي ذكرها لاحقاً. المهم، ضاق الوفد ذرعاً في انتظار الردّ، فما كان مِنهم إلا أن صاغوا رسالة ثانية، وقد جاء في نصّها: «إلى صاحب العظمة سلطان نجده وملحقاتها، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد الاحترامات اللائقة لعظمتكم نوجه أنظاركم السامية إلى كتابنا السابق نمرة 52 (المؤرخ 12 رجب سنة 1344) الذي ما تلقينا جوابه حتى هذا اليوم. كنا نرجو أن نتشرّف برؤية الجواب ليتسنى لنا فهم المسائل، وبعد ذلك نسافر إلى بقعة أخرى مِن الحجاز. وعند انقضاء مهمتنا في الحجاز نرجع إلى الهند، لنجتهد في كشف الغطاء وتسهيل الأمور في سبيل الحجاج الذين ينتظرون بفارغ الصبر عودتنا. وقد علمنا أن عظمتكم تُريدون السفر إلى مكة عاجلاً، فإن كان الأمر كذلك فنحن نسألكم بكل أدب أن تهيّئوا لنا التسهيلات اللازمة لسفرنا إلى مكة المكرّمة، حتى نقدر على المفاهمة مع عظمتكم هناك... وتقبلوا الثناء الجميع الآداب الفائقة».

الردّ السعودي

«حضرات الأفاضل حبيب الله (رئيس الوفد الهندي) ورفاقه المحترمين...
لي الشّرف أن أحيط حضراتكم علماً بأن كتابكم المرفوع لمولاي، المؤرخ في 12 رجب سنة 1344 (هـ) قد وصل، وقد أمرني، أيده الله، أن أعرب لكم عن شكره بما ذكرتموه من عباراتكم الرقيقة في أول كتابكم، فإني أجمل لحضراتكم الجواب على الأسئلة التي أحببتم الاستفسار عنها، لتكون معلومة لديكم على وجهها بغير مبالغة أو تحريف.
البند الأول: سألتم ستة عشر سؤالاً عما وقع في الطائف من الحوادث والوقائع في أول الحرب، أحيط حضراتكم علماً بأن الجند النجدي (جند عبد العزيز آل سعود) لمّا تقدّم إلى الحجاز لم يكن ليُقدّر له ما لاقاه من النصر والظفر، ولم يكن القادة الذين كانوا معه ليُقدّروا هذا الظفر والنصر، وإنما جاء الجيش، وكان عبارة عن طليعة بسيطة لاكتشاف قوة العدو (جيش الشريف حسين). ولمّا اقترب من حدود الطائف أرسل في المساء ما يقرب من أربعين خيّالاً لأسوار مدينة الطائف، ليكشف حال العدو، فوجد باباً من أبواب أسوار الطائف مفتوحاً، وأن قوة من جند الشريف تخرج من الباب، فهاجموا الباب حتى دخلوه. وكان الوقت وقت غروب الشمس، واختلط عند ذلك جند الشريف بالسرية الصغيرة من جنودنا في داخل البلدة، ودخلها أخلاط من الناس من رواد السلب والنهب حتى اختلط الحابل بالنابل، ولم يصل الخبر بدخول الطائف لقادة جندنا إلا بعد منتصف الليل، ولم يكن بإمكان أحد أن يعمل أي عمل في ذلك الليل البهيم. فوقعت حوادث تأسّف لها مولاي جلالة الملك كل التأسف، ولم يكن ليرضى بها قط. وليس ما وقع في الطائف بدعاً في تاريخ الحروب في العالم، فهذه أفعال الألمان في القرن العشرين مسطورة في بطون التواريخ عن أعمال جنودهم في بلاد البلجيك، وفي بلاد الأفرنسيين، بل هذه أعمال جنود الحلفاء وسيرتهم في سائر البلاد التي دخلوها. وما لنا ولذكر الأوروبيين، ألم يقل رسول اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد؟ (ورد باستفاضة في نص الرسالة حديث نبوي، نقلاً عن الطبري، يُشير إلى جريمة قتل جماعيّة بحق بني جذيمة ارتكبها الصحابي خالد بن الوليد).
إن مولاي يُكرّر في مثل هذا المقام ما قاله رسول الله مِن براءته مِن كل عمل عمله أي رجل، مِن قواده أو جنوده، مما ليس له حق في فعله ولا يسمح به الشرع ولا تستدعيه المصلحة الحربيّة».
هكذا، ها هو عبد العزيز، في البند الأوّل من الرسالة، يُقر بالمجازر الجماعيّة التي حصلت في الطائف، على يد جيشه الوهابي، أو العصابة التي كانت تُعرف آنذاك بـ«أخوان من أطاع الله» (قبل تطويعهم كجيش نظامي بدائي). لم يكن ينفع الإنكار، أصلاً، فأخبار تلك الواقعات كانت قد طار صداها إلى خارج الجزيرة العربيّة، وقد تم توثيقها، ولو بدائياً، فضلاً عن أنها، بضحاياها وثواكلها، كانت لا تزال قابلة للمعاينة. كلّ ما فعله عبد العزيز، في تعليقه على ما حصل، أنّه اختبأ خلف «شماعة» الدين، متأسيّاً بـ«السلف الصالح» في الأمّة، حيث يرتكب أحدهم الفظاعات ومع ذلك... «رضي الله عنه». بالتأكيد، وكما دائماً، ثمّة مجموعة مِن «فقهاء البلاط» المتمرّسين الحاضرين لنبش التاريخ، ومِن ثم استخراج الحُكم أو الفتوى التي تُناسب سياسة «السلطان» الحاليّة. اللافت أن «الملك» بدا مستعداً للذهاب أبعد من ذلك، أبعد من النص الديني - التاريخي - السلفي نفسه، وذلك عندما أورد في ردّه عبارة: «مما تستدعيه المصلحة الحربيّة». هنا يُقفَز فوق كلّ شيء. ربما هذه تُلخّص كلّ شيء... إلى هنا.
البند الثاني مِن الرسالة: «ذكرتم ثمانية أسئلة عن المساجد وهدمها. إنّنا نبرأ إلى الله مِن هدم مساجد الله، أمّا مسجد أبي قبيس فقد أقدم بعض الجهلة على هدمه مِن غير علم، فأمرت الحكومة بإعادته لأنه مسجد ليس إلّا. وأما باقي المساجد فإنها باقية وستبقى إن شاء الله تعالى عامرة بذكر الله، نحافظ عليها بأموالنا وأنفسنا».
إذاً، فإن «بعض الجهلة» هم الذين هدموا مسجد «أبي قبيس». بالتأكيد، لا يسع عبد العزيز أن يقول إنّهم مِن جنده، مِن المشبّعين بتعاليم الوهابيّة، مذهب «المملكة» الرسمي... إلى اليوم. وبالتالي هو لا يورد أيّ ذكر لمعاقبة هؤلاء «الجهلة» على فعلتهم مِن جانب «الحكومة» (كان عبد العزيز، أو الحُكم السعودي عموماً، قد أصبح في تلك الحقبة يُكثر من استخدام لفظة حكومة، على غير ما درجت عليه عادة الأسلاف).

نهدم الآثار... حفظاً للدين

البند الثالث مِن رسالة الردّ السعودي: المسألة هنا حسّاسة، وهي تتعلّق بموضوع كان وما زال إلى اليوم مثار جدل كبير في العالم الإسلامي، على المستوى الفقهي، فضلاً عن القيمي والأخلاقي، والذي أصبح أبرز سمات الوهابيّة كمدرسة فقهيّة سلفيّة معاصرة. إنّها مسألة: الأضرحة وقببها وعموم المزارات (أو المقامات). جاء في الردّ أنّه: «سألتم ثلاثين سؤالاً تتعلّق بأشياء جعلتم لها ثلاثة أسماء، المآثر الإسلاميّة والمزارات والقبب، فنخبر حضراتكم في صدد هذه المسائل بصراحة، وهو أن ديننا دين الإسلام، ومرجعنا في أعمالنا كتاب الله وسنّة رسوله محمد وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وما عليه الأئمة الأربعة الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والإمام أحمد. فإذا كان لدى أحد من الناس حجّة يوردها علينا في أمر مِن الأمور، فيما يتعلق بهذه الأقسام الثلاثة مِن كتاب الله أو مِن سنة رسول الله، أو من أعمال السلف الصالح أو مِن أقوال الأئمة الأربعة، فليتفضّلوا علينا بها لنكون أول المُطيعين. إن الذي نتّبعه في ديننا هو هذا، كتاب الله وسنّة رسول الله وسنّة الخلفاء الراشدين وأقوال الأئمة الأربعة، ولسنا تبعاً لرغائب الناس وأهوائهم، فإذا كان المجموع مِن الفرقة الفلانيّة يبتغون كذا والمجموع مِن الفرقة الفلانيّة يبتغون كذا، وكان واجباً علينا أن نُراعي رأي كلّ فريق فيما يشتهي ويحب، ضاع الدين وضيّعنا كتاب الله (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض). إننا لا يهمّنا في أمر ديننا أهواء الناس ولا غاياتهم، ولا فرقهم ولا أحزابهم، وإنما يهمنا أمر الله واجتناب نواهيه وإتباع رسوله والخلفاء الراشدين والأئمة الأربعة، فمَن كان عنده مِن الأصول التي ذكرناها انتقاد أو مقال، فليتفضّل علينا به لنكون أوّل المتّبعين، ويُمكنكم أن تُراجعوا النظر في أسئلتكم وترجعوا إلى كتاب الله وسنّة نبيه، أو إلى الخلفاء الراشدين أو قول أحد الأئمة الأربعة، فتقولوا إنّكم فعلتم كذا، وهذا ممنوع بدليل أن الله تعالى يقول كذا أو رسوله يقول كذا أو أحد الخلفاء يقول كذا أو أحد الأئمة الأربعة يقول كذا، عندئذ تجدوننا نُطأطئ الرأس ونعود عن كلّ خطأ مستغفرين تائبين (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)».
هكذا، المسألة محسومة منذ البداية، أصلاً، عند «السلطان» وفقهائه العاملين في خدمته: لا مآثر ولا مزارات ولا قبب، هذه ليست ثلاثة أشياء، بل مسألة واحدة، اسمها: «الشرك بالله». هذا ما نظّر إليه شيخهم الأكبر ابن عبد الوهاب، قديماً، في كتاب "التوحيد". الخلاصة، هذا يعني أنّه كان لا بد مِن هدمها، ولو كان عمرها نحو 1300 عام، ولو كانت تعني رعيل مؤسسي الإسلام، ولو كانت بيت النبي نفسه، كل هذا لا يهم. المُهم هي، بنظرهم، تعني «تضييع لدين الله». القوم واثقون من أنفسهم جدّاً. كانوا كذلك وما زالوا. إنهم يتعبّدون في هذه الأشياء. سلوكهم، بحسبهم، هو امتثال لأمر الله. هم وحدهم مِن فهم أمر الله، دين الله، شريعة الله، وبالتالي لا يهم ما يقوله فقهاء الهند، ولا فقهاء مصر في الأزهر مِن أحناف وشوافع، ولا فقهاء المالكيّة على مساحة شمال أفريقيا، وكذلك الأمر في الشام وعموم العالم... إذ صدرت آنذاك مِن تلك الحواضر، ولاحقاً أيضاً، الكثير من الإدانات والحجج «الفقهيّة» التي لا تجيز ما حصل، لكن آذان السلاطين الملوك والأمراء، وقد تعاقبوا، إلى اليوم، ظلّت متعجرفة صمّاء.

إيّاكم أن تتدخلوا في «بلادنا»!

تُكمل الرسالة السعوديّة الردّ على أسئلة الوفد الهندي، في البند الرابع: «ذكرتم أسئلة ستّة تتعلق بقبر النبي وبيته، فقد أعلنّا غير مرّة رأينا في أن قبره وبيته نُدافع عنه بأموالنا وأرواحنا وبكل ما نملك، ولم نقف أمام المدينة المنوّرة ونكتفي بحصارها إلا لحرمة رسول الله ولمسجده». هنا تأكيد آخر مِن عبد العزيز، ومدرسة «حكومته» الوهابيّة، أنّ الحُرمة للنبي ومسجده فقط، أمّا الناس، الضحايا، مِن أطفال ونساء ورجال، فلا حرمة لهم. هؤلاء أصلاً، بحسب فتاوى رجال دين عبد العزيز، المنشورة آنذاك، ليسوا بمسلمين أصلاً. أيّ فجيعة شهدتها تلك الحقبة، وسكت عليها العالم الإسلامي، باعتبار أن أهل مكّة والمدينة المنوّرة والطائف وجدّة (وعموم الحجاز) ليسموا بمسلمين! عبد العزيز، بحسب جريدة «أم القرى» (الناطقة باسم الحُكم السعودي) كان يصف، حرفيّاً، دخوله إلى الحجاز، بما في ذلك أرض الحرمين، بـ«الفتح». يعرف فقهاء المسلمين، قاطبة، أن الفتح في أدبيات التُراث الإسلامي لا يكون إلا لـ«البلاد الكافرة».

البند الخامس: «ذكرتم ثمانية أسئلة عن الحريّة المذهبيّة، ونحن نقول إن كلّ مسلم حر في كلّ قول أو عمل يجيزه الإسلام، ونمنعه مِن كلّ قول أو عمل يحرّمه الإسلام ويمنعه. إن الحجاز هو مصدر الإسلام وأساسه، فإذا لم تكن الكلمة العليا فيه لكتاب الله ولسنّة رسوله، ولِمَا كان عليه السلف الصالح، ففي أيّ مكان تكون الكلمة العليا لهذه الأسس العظيمة! ولهذا، فيمكن لكلّ مسلم أن يعلم الشيء المباح في الحجاز والشيء الممنوع فيه بعرضه على ذلك الأساس المتين، الذي من تمسّك به نجا ومن فارقه وحاد عنه كان والعياذ بالله من الهالكين».
هنا عبد العزيز يؤيّد الحريّة المذهبيّة، مَن يقول غير ذلك؟ لكن مهلاً، الحريّة هنا بشرط أن يكون كلّ قول أو عمل «يجيزه الإسلام». حسناً، أيّ إسلام؟ عند السعودي، وحكمه، الإسلام هو فقط ما فهمه هو أنّه الإسلام. فهمه الخاص يعني، مهما ضاق وتوعّر. إنها حكاية اللعب على الكلام المملة. عموماً، هذه نزعة ليست محصورة في عبد العزيز وحكمه، لا سابقاً ولا اليوم، في كثير مِن بلاد العالم، لكن مع فارق جوهري مفاده: هنا يحصل هذا باسم السماء.
البند السادس: «سألتم بعض أسئلة تتعلق بعلاقة نجد مع بعض الدول الخارجيّة، فأستميحكم العذر في أن أفيد حضراتكم بأن نجد مستقلة استقلالاً تاماً في داخليّتها وخارجيّتها، وليس لدولة أجنبيّة أو أدنى فرد أجنبي سلطان عليها، ولا تسمح لأيّ إنسان كان أن يتدخل في أيّ شأن مِن شؤونها الداخليّة أو الخارجيّة. أما الحجاز، فإن مولاي لم يعقد أيّ عقد أو معاهدة يتعلق بالحجاز. وأما معاهدة جدّة وبحره فعلاقتها مقتصرة على المسائل المشتركة بين العراق ونجد، وشرق الأردن ونجد، وليس لها علاقة في الحجاز بوجه من الوجوه. أما العقبة ومعان، فليس لمولاي جلالة الملك أيّ علاقة في أمرهما أيام دارت المفاوضة بشأنهما بين الشريف علي وأخيه الشريف عبد الله، بشأن تنازل الأولاد عنهما للثاني، وقد نشرت الجرائد نص تلك المخابرات في حينها، وأن حدود الحجاز لم تُقرّر بصورة نهائيّة بعد لنكون مسؤولين عن جميع الأطراف. وذكرتم حضراتكم أسئلة متعدّدة تتعلق بأمور البلاد الحربيّة والعسكريّة، وبعض شؤون الإدارة الداخليّة، فأستميحكم العذر في أن أذكّر حضراتكم بأنّ البحث في هذا الموضوع لا يعنيكم بوجه من الوجوه، ولا يمكن الحكومة أن تقبل مِن حضراتكم أو مِن أيّ إنسان كان أن يسألها عن مقدار ما عندها مِن الأسلحة، ولا عن مواضع وجودها، وإن في السؤال عنها مدعاة للريبة التي يجب أن نجلّكم عنها».
رغم أن الوفد سَأل عن الأسلحة التي «نُهبت» مِن الحُكم السابق، ومِن أهالي الطائف والحجاز، بعد «فتح» هذه المناطق على يد جيش عبد العزيز، إلا أن الردّ يأتي في مكان آخر تماماً، ليجعل مِن السؤال الواضح تدخلاً في شؤون الدولة! أما الأسئلة الأخرى، فالوفد الهندي لم يعد يسأل «السلطان» بصفته حاكماً لنجد وحسب، وذلك بعد أن تسلّط على الحجاز، والحرمين تحديداً، وبالتالي يسألون مِن منطلق أن هذه الأرض ليست ملكاً لأب أحد، بل، وهذا ما طالبوا به، هي أرض لا بدّ أن تكون تحت إشراف عموم المسلمين في العالم.
هكذا، فجأة نما عند عبد العزيز آل سعود حسّ «السيادة الوطنيّة». وكأنّه ليس هو من ردّ، قبل نحو أربع سنوات، على توبيخ المفوّض البريطاني بيرسي كوكس (الحاكم) في منطقة الخليج، بالقول: «جنابك أنتَ أبوي وأنتَ أمي. وأنا مستحيل أن أنسى فضلك عليّ. أنتو اللي سوّيتوني وأخذتوا بإيدي، وأنتو إللي رفعتوني وشلتوني. وأنا مستعد، بإشارة منك، لأن أتنازل لك هالحين عن نص مملكتي... لا والله، أنا أتنازل عن مملكتي كلها، إذا جنابك تأمرني» (وثائق الوكيل السياسي البريطاني في البحرين هارلود ديكسون – 1922).
البند السابع: «سألتم بعض أسئلة تتعلق بمصير الحجاز السياسي والإداري، وعن المؤتمر الإسلامي وما للمسلمين مِن علاقة في هذه الديار. أما ما يتعلق بمصير الحجاز السياسي والإداري فهذا أمر ترك مولاي أمر التقرير فيه لأهل الحجاز أنفسهم، ولهم الحريّة فيما يرون فيه المصلحة لأنفسهم فيقررونه لحفظ الحجاز من أي سيطرة أو مداخلة أجنبية، ولما يؤمن الأمن فيه ويعلى كلمة الشريعة الإسلامية فيه.
وأما المسلمون ومؤتمرهم فإنا نرحب بالمسلمين ومؤتمرهم متى صمموا على ذلك، ليبحثوا فيما يؤمن راحة الحجاج ورفاهيتهم في هذه الديار المقدسة... وتفضلوا حضراتكم بقبول فائق احتراماتي» (رئيس الديوان الملكي - عبد الله السليمان الحمدان).

محمد نزال-الأخبار اللبنانية-