علاقات » اميركي

أجوبة ضرورية لسؤال «نيويورك تايمز»

في 2016/11/05

لا يبدو أن أحداً ما في السعودية يمانع، من حيث المبدأ، التواصل مع الصحافة العالمية، بل على العكس، يجتهد المواطنون والمسؤولون الرسميون على حدٍ سواء في الوصول إلى الإعلام الأجنبي، لكن لأسباب مختلفة ومتعارضة. تواصل المسؤولون السعوديون مع الإعلام الأميركي بكثافة خلال العام الماضي، وتخلل أحاديثهم الإفصاح أول مرة عن تفاصيل حساسة حول الوضع الاقتصادي للبلاد، وعجز الموازنة والمشاريع المتعثرة والخطط المستقبليّة.

وبفخرٍ، نقلت الصحف السعودية شبه الرسمية تفاصيل هذه الحوارات عن الصحف الأميركية، والشخصيات السعودية البارزة تلجأ، بين وقتٍ وآخر، إلى نشر مقالاتٍ في الصحف الأميركية لعرض وجهة نظرٍ ما، وأصحاب القضايا التي تنطوي على مظلمة حقوقية بيّنة لجأوا بشكل ثابتٍ إلى إطلاع الصحافة الأجنبية على مواقفهم من أجل الحصول على مساعدةٍ أو حماية، كما في قضية فتاة القطيف، أو قضية التفريق بين الزوجين منصور وفاطمة بسبب الطعن في النسب، أو قضية الشاعر أشرف فياض.

وتحدثت مجموعاتٌ من النساء السعوديات إلى الصحافة الأجنبية، في مناسباتٍ مختلفة، ليؤكدن التقدم الملموس في وضع النساء في البلاد، وحتى صحافية نيويورك تايمز، منى النجار، كان مُرحّباً بها للغاية عندما دخلت البلاد لتغطية مشاركة المرأة في الانتخابات البلدية في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قبل بضعة أشهر، حيث قامت بعملٍ جيّد على الأرض، وتحدثت مع الجميع، المرشحين رجالاً ونساءً والمسؤولين الرسميين عن الانتخابات.

لكن الصحافية نفسها، والصحيفة نفسها، عندما رغبت في التفاعل مع حملة إسقاط ولاية الرجل على المرأة، المتواصلة في السعودية منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وتوجهت إلى السماع من السعوديات مباشرة، اعتبر كثيرون، ومن اتجاهاتٍ ثقافية مختلفة، أن التواصل مع الصحيفة خيانة، واستجلابٌ للتدخل الخارجي، يضاهي استجلاب المعارضة العراقية للغزو الأميركي للعراق. 

هناك مجموعتان من الأسئلة، يجب طرحهما في هذا الموقف، تخص الأولى علاقة هذه الحملة، والنساء السعوديات بصفة عامة، بالإعلامين المحلي والأجنبي. ما الذي يجعل السعوديات الغاضبات تحديداً يُقبلنَ على الحديث إلى الإعلام الأجنبي؟ من الناحية الأولى، لم تساند الصحافة السعودية المحلية حملة إسقاط الولاية، إلا بشكلٍ محدود، بسبب بُعدها السياسي الواضح ومطالبها الجذرية.

من الناحية الأخرى، يبدو أن الحديث إلى هذه الصحافة غير مُجدٍ عموماً، فطوال الأعوام الماضية، نشرت الصحافة المحلية في السعودية حول قضايا النساء، وعلى الرغم من أن هذه الصحافة تبنّت مقارباتٍ جزئيةً لمشكلاتٍ محدودة، إلا أن هذه المقاربات كانت ذات جدوى في ملء الفراغ التحريري أكثر من جدواها في تغيير الأنظمة فعلياً.

وعجز هذه الصحافة عن الوصول إلى الناس أو التأثير في الحكومة واضحٌ إلى درجة أن الجميع، مسؤولين ومواطنين، يتّجهون بلا تردّد إلى صحافة خارج البلاد، عندما يكون لديهم ما يهتمون حقاً بإسماعه، إلى درجة أن بعضهم صار يعتبر أن بعض المؤسسات الصحافية الأجنبية موالية للسعودية، وبعضها مناهض، وأن "نيويورك تايمز" من الصنف الثاني.

لكن، هل كان الموقف من حديث السعوديات إلى الصحافة الأجنبية سيختلف، لو جاء الاستطلاع من "بلومبرغ" أو "واشنطن بوست"؟ قطعاً لا. فالخوف من مقاربة الصحافة الأجنبية قضايا النساء يتجاوز نوع الصحيفة، وعابر للمجتمع السعودي بكل مستوياته. 

لماذا خاف كثيرون مما ستقوله النساء للصحافة الأجنبية بينما يؤكّدون، في الوقت نفسه، على الحياة "الملكية" التي تتوفر للمرأة في السعودية؟ كان هذا الخوف تعبيراً فاضحاً وغير مقصود عن الشعور المضمر بوجود واقعٍ مخزٍ، ومظالم كثيرة يُخشى أن تُنشر في الصحافة الأجنبية، ومثل هذا أيضاً كانت تلك الردود التي انهالت على استطلاع الصحيفة، مُجيبة بصور نساء أميركيات متشردات ومُقترحة على الصحيفة الاهتمام بشؤونهنّ.

عبّرت هذه الردود، من حيث لا تقصد، عن توقعاتها المضمرة بأن صورة النساء في السعودية سيئة، بحيث لا يمكن أن تتفوق عليها إلا صور التشرد والفقر المدقع والجرائم الصريحة.

هل تعرّفت الصحيفة في استطلاعها على قصص ما كانت لتعرفها مباشرة من خلال "تويتر" والصحافة السعودية نفسها؟

الحقيقة أن التقرير الذي أعدته منى النجار، بناءً على 6000 استجابه وردتها، كان مُتحفّظاً ومُتّزناً ومحتشماً للغاية، مقارنة بما يُنشر في "تويتر"، بل حتى مقارنة بما عرضته شاشة mbc الأسبوع الماضي من قصص حقيقية مروّعة، صرنا نعلم جيداً أنها مهما أفزعتنا، فإن عرضها في صحافتنا لن يصنع أي فرق. 

وأخيراً، هل كان المعترضون على حديث النساء إلى "نيويورك تايمز" يفضّلون أن تُعد الصحيفة تقاريرها من دون أن تسمع مباشرة من النساء السعوديات؟ رأينا نماذج من أعمال الصحافيين الأجانب التي تتم من دون تواصل واسع مع السعوديات، مثل فيلم فرونت لاين "السعودية مكشوفة"، ورأينا كيف يملأ الصحافيّ الأجنبي الفراغات المعرفية، اعتماداً على مخيلته، ويُنتج صورة تبتعد عن الواقع، وتُهين السعوديين وقضاياهم.

كان اتجاه الصحيفة إلى السماع مباشرةً من السعوديات عملاً ينمّ عن احترام، لكن المعترضين ربما كانوا يرغبون في عالمٍ لا تتطرّق فيها صحيفة خارج الحدود إلى قضايا النساء في مجتمعهم لا بمشاركتهنّ، ولا بدونها، وهذه رغبة خيالية في عالمٍ شديد السيولة كعالمنا اليوم، سائل إلى درجة أن هؤلاء المعترضين يعرفون إحصائياً كم تبلغ نسبة العنف ضد النساء في أميركا، لكنهم لا يرغبون في معرفة هذه النسبة في بلادهم. 

تخص المجموعة الثانية من الأسئلة إجابة الدولة على حملة "إسقاط الولاية"، فمن الواجبات الثابتة التي تضطلع بها الدولة أنها تقدّم "جواباً" على المعضلات التي تُطرح عليها. قد تكون المعضلة صراعاً أو أزمة اجتماعية أو احتجاجاً. وعلى الدولة أن تقدّم جوابها الذي قد يكون حيوياً يواجه المشكلات، ويسعى إلى الحلّ، أو يبحث عن التسويات أو يستخدم العنف، لكن الصمت جوابٌ أيضاً، والإنكار كذلك نوعٌ من الأجوبة.

حملة إسقاط الولاية في طريقها إلى إتمام الشهر الرابع، وقد تقدّمت إلى الدولة، بمعضلتها التي تحتاج إلى حلّ عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية، والجواب الذي قدّمته الدولة، حتى الآن، هو الصمت والتجاهل.

هل هذا هو الجواب المناسب حقاً على الحملة شديدة النشاط والإصرار؟ وهل هو الجواب المناسب على الحملة التي رفعت المطالب النسوية إلى مستوىً جديد تماماً؟

لم تنفع أجوبة العنف والتأجيل والمراوغة سابقاً في مواجهة مطلب جزئي مثل "قيادة السيارة"، ولا يزال مطروحاً منذ 26 عاماً، بل تقدمت النساء إلى مطلبٍ أعمق وأكثر جذرية. يمكن للصمت أن يكون جواباً مؤقتاً، لكنه حتماً ليس جواباً نهائياً في مواجهة المعضلة التي ابتكرتها الدولة، ابتداءً عندما صممت منظومة قانونية واجتماعية تدفع النساء باتجاه التطور، لكنها تظل تحتجزهنّ ضمن الأطر القديمة. 

إيمان القويفلي- العربي الجديد-