السلطة » صراعات قبلية

رحلة السيطرة على الحكم: هكذا وُلد «الجناح السلماني» من رحم «السديرية»

في 2018/06/21

علي جواد الأمين- الأخبار اللبنانية-

خلال أقل من أربع سنوات، تمكن الملك سلمان ونجله محمد من تغيير خريطة سياسية لم يسبق أن شهدت تغييراً منذ ستينات القرن الماضي، حين انقلب فيصل بن عبد العزيز على شقيقه سعود. متجاوِزاً حتى السلطات الواسعة التي يمنحها النظام الأساسي للملك، عبث سلمان بتلك الخريطة على رغم ما كان لها من دور في الحفاظ على قدر كبير من الاستقرار السياسي والأمني في المملكة. وقد أنبأ تسلسل القرارات التي اتخذها الملك، منذ لحظة وفاة أخيه عبد الله، بأن العجوز الذي اختبر دسائس القصر ومؤامرات الأجنحة وتناقضات القوى الداخلية على امتداد مشواره السياسي، عرف كيف يرسم مخطط الاستيلاء على الحكم في شكل مطلق، ما مكّنه من خلق «جناح سلماني» من رحم «السديرية» بثلاثة أضلع: ملك، وولي عهد بصلاحيات مطلقة، وسفير لدى واشنطن.

لم يعمل سلمان على تهيئة ابنه للعرش، بقدر ما عمل على تهيئة العرش له. وضع على رأس أولوياته القضاء على الأجنحة «السديرية» الأخرى و«جناح عبد الله» و«الجناح «الفيصلي». أولويات، كانت تستدعي تسخير هياكل النظام، من مجلس الوزراء ومجلس الشورى والهيئات والقضاء لمصلحة الخطة، وإتقان لعبة القفز على التناقضات لتعبيد الطريق نحو العرش، بما يرضي سكان البيت الأبيض، الذين ينظرون بعين الحذر إلى مصالحهم في المملكة. لعبة ضرب الأجنحة بعصا النظام بدأت ليلة الإعلان عن وفاة عبدالله في كانون الثاني/ يناير 2015. بدأ سلمان مراسيم المخطط قبل التشييع، مُطلِقاً صافرة المرحلة الأولى من «الانقلاب السلماني»، بثلاثة قرارات ليلية أسّست أرضية صلبة لنجله محمد، من خلال حصر الحكم بـ«الجناح السديري» الذي ينتمي إليه. قرارات شكّلت بتجاهلها «هيئة البيعة» ضربة قاضية لـ«جناح عبد الله»، الذي كان يمهد الطريق لنجله متعب، بإلزام أعضاء «الهيئة» التي أسسها برفض أي قرار من بعده بتنحية مقرن بن عبد العزيز من ولاية العهد، لقرب الأخير من متعب. ولكن سرعان ما هوى بنيان عبد الله بإصدار سلمان أوامر ملكية قضت بتعيين ابن نايف ولياً لولي العهد، إلى جانب كونه وزيراً للداخلية. وعلى رغم أن سلمان كان يخطّط لإعفاء ابن نايف من منصبه كما فعل في ما بعد، إلا أنه فضّل الاستحواذ على مفاصل الحكم بهدوء، فخضع مرحلياً لميزان القوى بتقديمه ابن نايف على نجله المدلل (في منصب ولاية ولاية العهد) لعدة أسباب من بينها أن ليس لدى ابن نايف خلف من الذكور.

لم يعمل سلمان على تهيئة ابنه للعرش بقدر ما عمل على تهيئة العرش له


بعد ثلاثة أشهر، فضّل سلمان البدء بالضعيف، فقرّر إزاحة مقرن عن المشهد (لتكون ولايته للعهد الأقصر في تاريخ المملكة)، ضمن حزمة جديدة من الأوامر الملكية رفّعت ابن نايف إلى منصب ولي العهد، وأدخلت ابن سلمان إلى أدنى مفاصل الحكم كولي لولي العهد، مُمهِّدة في الوقت نفسه لولاية عهد سلِسة للأخير عبر إزاحة وزير الخارجية المتمرس سعود الفيصل، وتعيين سفير المملكة لدى واشنطن عادل الجبير، الذي عُرف بتجاوزه الفيصل في إرسال تقارير مباشرة إلى سلمان من واشنطن، مكانه. وبذلك، استطاع سلمان إبعاد آخر صقور «الجناح الفيصلي»، وأمّن وزيراً مطيعاً للخارجية، تارِكاً منصب سفير المملكة لدى واشنطن لنجله الثاني خالد، والذي مثّل تعيينه فيه في نيسان/ أبريل 2017 خطوة مهمة نحو كسب الرضى الأميركي عن «الحكم السلماني».
لم يمض شهران على دخول خالد حرم السفارة، حتى أطلق سلمان صافرة المرحلة الثانية من «الانقلاب»، فأصدر أوامر ملكية جرّدت ابن نايف من جميع مناصبه، متلطّياً بـ«هيئة البيعة» التي تجاهلها حين تنصيبه، وعيّن محمد بن سلمان ولياً للعهد بدلاً منه، معيداً ترتيب الخلافة، وفاتِحاً الباب أمام أحفاد الملك المؤسس لتولي الحكم، فيما ترك لآل نايف وزارة الداخلية، التي كانت من نصيب عبد العزيز، ابن شقيق ابن نايف الأكبر (سعود الذي طالما تناحر مع شقيقه على الوزارة كونه الأحق بها وفق الترتيب)، في إطار لعبة الرقص على التناقضات المفضلة لدى سلمان. وعلى المنوال نفسه، عيّن بندر بن فيصل بن بندر، ابن أحد أعضاء «هيئة البيعة»، مساعداً لرئيس الاستخبارات العامة، وفيصل بن سطام، حفيد الملك المؤسس، سفيراً لدى إيطاليا، وخالد بن بندر بن سلطان سفيراً في ألمانيا، وخمسة أمراء آخرين مستشارين في الديوان الملكي، لتخفيف وقع الانقلاب الأبيض على ابن نايف، والذي أثار الذعر في صفوف الأمراء الشباب.

تطويع مفاصل النظام
في أعقاب مسرحية مبايعة ابن نايف لابن سلمان، لم يبق أمام الأخير سوى البطش بـ«الصغار» بقوة النظام، بعدما أعاد والده تشكيل هياكل الدولة على مقاسه، وذلك من خلال تغييرات بنيوية تارة أو إعفاءات وإقالات وتعيينات جديدة تارة أخرى. ففي مجلس الوزراء، كان قد ألغى 12 جهازاً حكومياً، وحصر مهامها بمجلسي «الشؤون السياسية والأمنية» و«الشؤون الاقتصادية والتنمية»، فسيطر عليهما ابن سلمان بعدما كان ابن نايف يشاركه رئاستهما. وإثر إطاحة ابن نايف من الداخلية، لم يترك لابن أخيه مهامها، فأنشأ جهاز «رئاسة أمن الدولة»، وربطه برئيس مجلس الوزراء، وفصل «المباحث» و«الأمن الخاص» و«طيران الأمن» عن الوزارة، وضمها إلى الجهاز‎ الجديد الذي بات تحت تصرفه. أما في مجلس الشورى، فأعاد سلمان تشكيله بالكامل، من رأس الهرم إلى الأعضاء، ليصبح المجلس في عهده الأكثر صُوَرية في تاريخ المملكة. وفي القضاء، أصدر عشرات الأوامر التي قضت بترقية وتعيين أكثر من 600 قاض خلال العام الأول من حكمه، ولم يُحدث أي تغييرات بعد ذلك حتى اليوم.
أما الهيئات، فكانت من كبرى معارك ابن سلمان مع القوى السياسية المتبقية. أعاد الأمير الشاب تشكيل «هيئة كبار العلماء» و«هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وغيّر رئيسها، وقلّص من صلاحياتها، كما أحدث تغييرات في هيئات «الجمارك» و«الزكاة والدخل» و«الرياضة» وأخيراً هيئات الرقابة الثلاث التي ألغى صلاحياتها، وحصرها في «هيئة مكافحة الفساد» التي تولى رئاستها، لينطلق من خلالها في ما عُرفت بـ«محاكمات الريتز»، وتنفيذ المرحلة الثالثة من «الانقلاب السلماني» على متعب، الخطر المتبقي في طريقه إلى العرش، كونه كان وزيراً للحرس الوطني الذي يكاد يوازي بعديده وعتاده الجيش.
يستفرد محمد بن سلمان، بعد القضاء على أجنحة القصر، والسيطرة على مفاصل النظام، بالقوى السياسية غير الرسمية، مُطلِقاً صافرة الإنقلاب على جميع التيارات الداخلية، خصوصاً الإسلامية منها، ومعتمِداً على الشباب في خطة اقتصادية واجتماعية وسياسية طويلة الأمد، ذات نكهة علمانية ليبرالية، لكن سرعان ما طفت تناقضاتها على السطح، في الاخفاقات الاقتصادية تارة، والسياسية تارة أخرى، والتي بدت جلية في مزيد من القمع ضد المجتمع المدني والنشطاء، وفي تضاعف صفوف المعارضة، وحتى في شبكات التواصل الاجتماعي، إلى أن باتت المملكة «سجناً كبيراً» كما يصفها الحقوقيون، جلادها مهووس بصافرات الانقلابات.


قرين سلمان المدلل
بدأ سلمان، منذ كان أميراً للرياض، تهيئة وليّ عهده الصغير، فاصطحبه إلى كل زياراته داخل المملكة وخارجها، ورافقه في نشاطاته، منذ تخرّجه في الجامعة وتعيينه مستشاراً في هيئة الخبراء في مجلس الوزراء في عام 2007، ثم مستشاراً خاصاً لأمير منطقة الرياض في عام 2009، حينما كان والده يشغل ذلك المنصب، إلى أن تولّى الأب ولاية العهد، فعيّن ابنه المدلل رئيساً لديوانه، ومستشاراً خاصاً له بمرتبة وزير في عام 2013. مناصب ثلاثة كانت كافية لتقوية عظامه، وبدء معاركه مع أبناء عمومته على مقاعد الحكم.
في نيسان/ أبريل 2014، تمكّن سلمان من إدخال نجله إلى مجلس الوزراء كوزير للدولة، بعدما أقنع الملك عبد الله بإعفاء عبد العزيز بن فهد، وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء، من منصبه «بناءً على طلبه»، وتعيين ابنه محمد بدلاً منه، «مع احتفاظه بعمله كرئيس لديوان ولي العهد»، مُستغِلّاً في ذلك كره عبد الله لـ«عزوز» المدلل، الذي عُرف بطيشه في كسر بروتوكولات آل سعود، وعدم احترامه أعمامه الكبار حينما كان والده ملكاً، ظناً منه أن مستقبله مضمون كونه يملك معلومات سرية وخطيرة عن أعمامه، متناسياً أنه ترعرع هو أيضاً في بحبوحة البطر والفساد.
بعدها بأشهر قليلة، عبّد سلمان، حينما كان ولياً للعهد ووزيراً للدفاع، الطريق أمام محمد إلى وزارة الدفاع، فطلب من عبد الله، في حزيران/ يونيو 2014، إقالة خالد بن بندر من منصب نائب وزير الدفاع بعد أسابيع قليلة على تعيينه، بسبب خلافات بينه وبين محمد، مثّل آخرها «القشة التي قصمت ظهر البعير» حينما مزّق ابن سلمان أوراقاً وقّع عليها خالد، ورماها في وجهه بطريقة مهينة، قائلاً له: «لا يتم أمر في الدفاع دون موافقتي». وعلى الرغم من أن خالد لم يردّ على «ولد سلمان»، واكتفى بالخروج والاتصال بخالد التويجري (رئيس الديوان الملكي سابقاً) الذي تعهّد له بـ«إجراء حاسم ضد ولد سلمان بطرده»، طالباً منه التريث إلى أن يعود الملك من المغرب، إلا أن عبد الله عاد ورضخ لطلب سلمان، فأعفاه بأمر ملكي ذكر فيه أنه جاء «بناءً على طلب وليّ العهد»، ولم يَتْبعه قرار بتعيين بديل في هذا المنصب حتى اليوم.