ثقافة » نشاطات

"عارية" تغزو مكة

في 2019/01/29

فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-

لم يتوصل الإنسان حتى اليوم، في مسيرة تطوره، إلى تعريف واحد جامع للفشل، فبين متفائل يقول إنه تعثر على سلم النجاح، أو من يعزوه إلى اللافعل حين يتوجب الفعل، لكنه باختصار يبقى عكس النجاح وضده، بينما تجد اتفاقًا على تعريف آخر مهم مثل الغباء، وهو أن تفعل نفس الشيء مرتين وتنتظر نتيجة مختلفة.

ويجمع بين التعريفين السابقين ما يجري في بقعة تتميز بوضع مقدس وفريد لدى كل مسلم، على وجه الأرض، مكة المكرمة، التي تشهد صخبًا هذه الأيام، لاستقبال مطربة أجنبية "ماريا كاري"، الدي جي تييستو، ثم المطربة الإماراتية بلقيس والمغني الجامايكي شون بول، في حفلات لهيئة الترفيه، برئاسة تركي آل الشيخ، كمحاولة لمغازلة الغرب، أو لإقناع بعض المواطنين أن هناك تغييرًا للأفضل في المملكة، وكأن الأرض ضاقت بهيئة الترفيه ورئيسها، ولم يجدوا سوى مكة، وهو الأمر الذي يشبه خيانة يهوذا الإسخريوطي للمسيح عليه السلام.

هيئة الترفيه جاءت كأحد مشروعات تصعيد ولي العهد الحالي، الأمير محمد بن سلمان، خلال إعلان توليه مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وهو المجلس المختص بإصلاح الاقتصاد والتنمية، يهدف تنسيقها ووضعها في إطار يساعد الدولة على توحيد توجهاتها بكل ما يتعلق بشؤون الاقتصاد والتنمية، وبالشكل الذي يمنع الازدواجية، ويحقق مزيدًا من الارتباط بين الوزارات المعنية بأعمال المجلس، والمنشأ في يناير من عام 2015، أي منذ 4 أعوام كاملة.

ورفعت الهيئة شعار "الترفيه"، والموجه للطبقات الراغبة في حضور مثل هذه الاحتفالات الموسيقية أو المباريات الرياضية، بدلًا من المصطلح الأدق وهو "الرفاهية"، الذي يعني تغيير نمط الحياة لملايين يعيشون تحت خط الفقر، وتعمل الهيئة بميزانية تبلغ 50 مليار ريال حتى عام 2020.

الغريب أن الهيئة، التي يأتي دورها مكملًا لخطط تحويل المملكة إلى عصر ما بعد النفط رفعت الشعار الأقل أهمية، في مقابل عالم يرفع شعارات الرفاهية، وهو عنوان أشمل، ويدل على تغيير شامل وجذري في المجتمع والاقتصاد على حد سواء.

ويحدد عالم الاجتماع الإنجليزي الشهير "توماس مارشال" دولة الرفاهية، في نظريته المعنونة بـ "المواطنة والطبقة الاجتماعية"، بأنها خليط محدد من الديمقراطية، الرفاهية، الرأسمالية، وتتبع الدولة فيها عملية تحويل موارد مالية من الموازنة إلى إمداد المواطنين بالخدمات الصحية، والتعليم، والرعاية الاجتماعية، وكذلك خدمة المواطنين على نحو مباشر، بما يضمن كفاءة الوصول بالخدمات إلى أضخم عدد ممكن وبأفضل صورة.

إذًا.. ما هو وضع مكة، وهي المنطقة التي ستستضيف الحفلات الغنائية، وهل هي المنطقة التي ينتظر أغلب سكانها وأبنائها مثل تلك الحفلات، أم أن همومهم أكبر وأعمق.

الإجابة هي أن عمليات تجديد وإخلاء عشوائيات "مكة"، القريبة من الحرم الشريف، تتعثر عامًا تلو الآخر، ولم ينجز منها إلى الآن سوى القليل، 67 منطقة عشوائية تجاور الحرم، وعلى بعد كيلومترات فقط من المسجد الحرام، أهمها النكاسة، والكدوة، وجبل الشراشف، وحي الملاوي، ودرب المشاعر، وجبل خندمة، لا تصلها المياه النظيفة، ولا تتوافر بها الطرق الإسفلتية، ولا تعرف بعض بيوتها الكهرباء.

ومنذ أعوام طويلة فشلت الجهود الحكومية في احتواء أزمة العشوائيات بمكة، ونتج عنها المزيد والمزيد من الآثار السلبية، مع زيادة عدد سكانها، وتأثير مشروعات تطوير الحرم عليهم بالسلب، وانعدام مصادر الدخل الثابتة والأمن، وغياب المرافق الصحية والتعليمية، وضعف النشاط الاقتصادي فيها، وتهالك المباني والأزقة الضيقة والطرق غير الممهدة.

وطفحت نتائج ترك المشكلات على حالها، العام الماضي، في شكل أزمة "الجرب" الذي اجتاح مدارس مكة كوباء، وهو انتهى من أفقر الدول، ثم جاءت أزمة السيول المتجددة منذ عدة أعوام، لتوضح أن كل الإجراءات الحكومية المتخذة مجرد "أموال تنفق على الورق"، ولا مشاريع حقيقية تتحقق على أرض الواقع.

الهيئة المنوط بها تطوير مناطق مكة العشوائية، هي هيئة تطوير منطقة مكة المكرمة، وأمانة العاصمة المقدسة، وكلتاهما يبدأن كل عام جديد بالإعلان عن الخطط والدراسات والمخصصات المالية، ثم يختفي كل شيء فجأة، والمتابع للصحف الصادرة بالمملكة لن يفوته أن يلحظ أن حي النكاسة، الذي يبتعد عن منطقة المشاعر المقدسة أقل من 10 كيلومترات، يأتي ذكره في الصحف منذ العام 2014، والنتيجة فاضحة للفشل الحكومي.

وفي النهاية من الغباء أن تثق في مجموعة فاشلة، تقود أكبر اقتصاد عربي إلى العجز والاستدانة للعام الرابع على التوالي، ومن الجنون أن تتجاهل وضع "مكة" العاصمة الدينية، وأقدس بقاع الأرض، والتي تجعل منها مسرحًا لعرض الشذوذ والعري، بحجة "الترفيه"، في وقت تنتشر فيه العشوائيات داخلها، والتي لا تحتاج إلا إلى إرادة سياسية وتمويل مالي، ربما أقل من مصروفات نادي كرة قدم.