خاص الموقع

إعلام الفتنة و"فتنة" الجزائر

في 2019/03/15

فؤاد السحيباني- راصد الخليج-

يقول علم الاقتصاد إن أبسط تعريف للحاجة هي شعور بحرمان، ووعي بوسيلة القضاء عليه، وسعي لتحقيق هذه الوسيلة، وفي ظل مناخ الحرمان المؤكد داخل أغلب دول العالم العربي، فإن الوعي والسعي أنتجا محاولات غير مكتملة للعبور من العالم القديم إلى الجديد، من حكم العصور الوسطى ومجتمعات ما قبل الثورة الصناعية إلى العصر الحديث، سيان كان ذلك في السعودية أو مصر أو غيرهما، الجميع على صفيح ساخن، الشعوب تريد، وبمقدار ما تبتعد الأنظمة عن الأماني الحقيقية للجماهير تقع الأزمات والفورات الهائلة.

في الجزائر، يخوض شعبها الباسل غمار تحدٍ هائل، لإصلاح مسار رآه معوّجًا، ونجحت بالفعل التظاهرات الحضارية في إجبار الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة على وضع خارطة طريق للإصلاح الذاتي، وتحت قيادته، خلال عام واحد، يخرج بعدها من الحكم، مع تأجيل الانتخابات الرئاسية.

السبب الأول للمظاهرات كان سِن الرئيس الجزائري، وحالته الصحية غير الجيدة، ولو مددنا الخط على استقامته، سنجد أن "بوتفليقة" يأتي سادسًا في ترتيب أكبر الزعماء العرب سِنًا، ويسبقه حاكمان خليجيان، هما الأمير صباح أمير الكويت والملك سلمان، ويأتي خامسًا في ترتيب الأقدم بالسلطة، كما أن الحالة الصحية لأغلب حكام العالم العربي غير معروفة أو معلنة لكافة الناس، ومن هنا يأتي الاختلاف الجوهري في الحراك الشعبي، الذي يؤسس لمرحلة جديدة في عالمنا العربي المرتبط عضويًا ببعضه.

الدرس الجزائري الأول كان للأنظمة، ثم للشعوب، الشعوب مهما بدا أنها ساكنة صامتة فإنها لا بد وستتحرك لنيل حقوقها، والأجيال الجديدة التي يتفتح وعيها في عالم فوّار بالحركة والتغير ستتحرك هي الأخرى، ولو بالطبيعة البشرية الراغبة في التطور والمحاكاة، والتخدير الذي تمارسه الأنظمة واصل لمنتهى فعل، وليس إستراتيجية تصلح للعالم الجديد.

النجاح الجزائري يُحسب للنظام، قبل عموم المنتفضين ضده، الذي أثبت تفهمًا ومرونة هائلين، وسلّم مقدمًا بحق الناس في الاختيار، ونزع فتيل أزمة عنيفة، في بلد اعتاد العنف والدم، سواءً خلال حرب التحرير الضروس ضد فرنسا، والتي كلفت مليون ونصف المليون شهيد، أو خلال العشرية السوداء، التي انتهت مع مطلع الألفية، وكلفته مئات الآلاف من القتلى، ووضعًا اقتصاديًا مهلهلًا، والأهم أن المجتمع يعج بتيارات تؤمن بالعنف وتسعى لتجربة حظها معه، وفوتت القرارات الرئاسية الفرص على الجميع.

الرؤية الشاملة لما حدث في الجزائر، تقول إن نظام الحكم نجح، والاحتجاجات الواعية فازت، والجزائر مقبلة على عصر جديد، ربما تقل سخونته عما كان متوقعًا، تجتازه بكثير من العقل والهدوء، في ظل أوضاع دولية تضربها تغيرات عنيفة عند القمة، وسخونة لدرجة الغليان عند القاعدة، أثبت الحراك الجزائري أن رؤية التحديات الكبرى، ووضعها في معادلة الحسابات، بما يساوي وزنها الحقيقي، لا يعني على الإطلاق الوقوف أمامها بالعجز، أو الخضوع لها بالتسليم، واستفادت تمامًا من تجربة الربيع العربي العاصف بالمنطقة.

لكن الغريب حقًا في صراع الجزائر المنتهي، كان دور الإعلام الخليجي، الذي دخل فور وقوع أول مظاهرة، ليحشد ويشعل ويرعى المظاهرات، خصوصًا أن دوافع الخروج الجزائري حين وقعت في الخليج، كان البارود والسيف والسجن هو الرد الوحيد من كل أنظمة الخليج، والثورة البحرينية شاهد عدل على اجتماع الفرقاء لوأد حراك وطني وجماهيري واسع بالمملكة الصغيرة، عن طريق قوات درع الجزيرة.

ارتدت القنوات العربية الممولة خليجيًا الرداء ذاته للإعلام الغربي، وعزفت سيمفونية التوتر والغليان، سعيًا لإسقاط نظام حكم عربي، لا يشترك معها في مواقفها، مؤديًا أعظم خدمة للشركات الغربية، التي تبحث عن سوق وموطئ بالجزائر، وحصة في ثروات النفط والغاز، وقطعة أخرى من كعكة الموقع العربي الفريد.

الجانب الأهم من الحراك الجزائري، أنه انطلق من وضع اقتصادي متردٍ، فالبلد الإفريقي غني جدًا بموارده من البترول والغاز الطبيعي، إذ تعد الجزائر رابع مصدّر للغاز الطبيعي في العالم، وثالث منتج للنفط بإفريقيا، ويشكل الغاز والبترول معًا 95% من صادرات الدولة، و70% من الإيرادات، وهي أرقام تظهر بجلاء اعتماد كامل على الريع النفطي، تمامًا كأننا نناقش الموازنة السعودية، ودور النفط فيها.

أثبتت الجزائر أن فشل الأنظمة في التأسيس لقواعد صناعية، تجعل الاقتصاد في مأمن من عواصف تغيرات الأسعار، وهي كثيرة ومستمرة، سينتج –بالتأكيد- حراكًا جماهيريًا، حتى وإن صمتت الشعوب لبعض الوقت.

 

ولو نظر إي إعلامي بقناة العربية، مدّ بصره إلى أحياء مكة المكرمة (مثل النكاسة)، وليس إلى الجزائر البعيدة، سيرى أنه وتحت لافتة الإصلاح الاقتصادي اتخذت المملكة أعنف الإجراءات في سبيل تقليل الإنفاق العام، وتحجيم الدعم وتقليله، وصولًا لتحويله إلى أرقام جافة، وكل ذلك لمعالجة خلل الإدارة المالية للمملكة.

البلد النفطي، الذي يمتلك أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، وموطن أثرى أثرياء العرب، يمتلئ بتلك الأحياء العشوائية، التي يعد الحديث عنها من المحرمات، وقد تودي بمن يقترب منها إلى السجن لبقية عمره.

الخلل الواضح ترجمته كانت لجوء المملكة، منذ 2015، وبدفع من فاتورة حرب اليمن وتخبط مسارات الإصلاح، إلى السحب من الاحتياطي الأجنبي، وبدّدت الحكومة بالفعل 180 مليار ريال خلال 2016 من الاحتياطي العام، وتراجع الاحتياطي بنسبة 28%، ليبلغ 474 مليار ريال بنهاية أكتوبر/تشرين الأول 2016، فيما كان نحو 654 مليار ريال نهاية 2015، ودخلت المملكة لأول مرة سوق الديون العالمية، عن طريق إصدار أدوات دين، تشمل الصكوك والسندات.

وكل هذه الأموال لم تترجم إلى إنشاء قاعدة صناعية، أو بنية تكنولوجية متقدمة، فالنفط يمثل 75% من إيرادات الموازنة، بجانب البتروكيماويات، التي تضعها المالية كصادرات سلعية.

وفي سبيل مواجهة الارتفاعات المتتالية بالأسعار، لجأت المملكة إلى تدشين "حساب المواطن"، ليظهر منها وكأن الموازنة تدعم المواطن، وليس هذا حقيقيًا بأي حال، فالمواطن هو من يدفع ثمن الاختلالات الهائلة في أولويات الإنفاق، وشهدنا خلال الشتاء الماضي حملات توزيع الكسوة للفقراء، ولو وجهت عُشر ميزانية التسليح والإنفاق في حرب اليمن إلى الأحياء الفقيرة فقط، لتغير حال البلد في ظرف أيام قليلة.