دول » البحرين

ما ثمن التوازن المالي في البحرين؟

في 2019/04/30

صباح نعوش- البيت الخليجي-

العجز المالي المزمن سمة أساسية للميزانية العامة في البحرين وتترتب عليه تفاقم المديونية وانخفاض النقد الأجنبي.
لمعالجة هذا العجز تطبق الدولة برنامج التوازن المالي 2018-2022 الذي يتضمن عدة إجراءات تفضي إلى تقليص الإنفاق العام وزيادة الإيراد العام. لكن السياسة المالية الرشيدة لا تقتصر على بلوغ هذا الهدف الحسابي. بل تهتم أيضاً وبصورة جدية بالنتائج التي تتمخض عن تحقيقه. فلا فائدة ولا ضرورة لتوازن مالي يؤثر سلبياً على مستوى معيشة المواطنين. إذ يفترض أن ترتكز هذه السياسة على التنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية. وعليه، لابد من تحليل حجم الأزمة ومن ثم دراسة البرنامج الحكومي لمواجهتها وبيان النتائج المترتبة على المبادرات التي يعتمد عليها.

حجم الأزمة المالية وتداعياتها
تسجل ميزانية البحرين عجزاً منذ عدة سنوات. ففي عام 2018 بلغ 1315.5 مليون دينار (3498.6 مليون دولار) أي 9.9% من الناتج المحلي الإجمالي (1). أنها نسبة عالية تتجاوز ثلاثة أضعاف المعدل الأقصى المتعارف عليه في دول عديدة بما فيها بلدان مجلس التعاون الخليجي وذلك بموجب اتفاقية الاتحاد النقدي الخليجي التي تنص على عدة معايير أهمها ان لا يزيد معدل العجز المالي على 3% من الناتج المحلي الإجمالي.
يتزامن هذا العجز المالي مع عجز آخر في الميزان الجاري. يترتب على هذه الازدواجية هبوط الاحتياطي النقدي وتفاقم المديونية العامة. عندئذ تتدهور السمعة المالية للبلد فتتراجع الاستثمارات وترتفع تكلفة الائتمان.
تلعب العوائد النفطية دوراً بارزاً في مالية البحرين حيث تشكل ثلاثة أرباع الإيرادات العامة. وبالتالي يرتفع العجز بانخفاضها وينخفض بارتفاعها. ولكن يتعين توخي الحذر من هذا التعميم. إذ يتعين الأخذ بنظر الاعتبار دور الإنفاق العام خاصة المصروفات العسكرية. وبالتالي يصعب التصدي للعجز المالي دون تقليص هذه المصروفات.

1- الإنفاق العسكري مرتفع
تستحوذ وزارة الدفاع على اكبر اعتماد في البحرين. فقد بلغت مصروفاتها 482 مليون دينار في عام 2019. يتعين إذن رصد ربع العوائد النفطية لتمويل هذه النفقات. علماً بأن الإنفاق العسكري لا يقتصر على هذه الوزارة بل يشمل كذلك قسطاً كبيراً من مصروفات وزارة الداخلية (ثاني أكبر وزارة من حيث مصروفاتها) وكذلك نفقات مؤسسات أخرى كالحرس الوطني وجهاز الأمن الوطني.
لا يتطرق برنامج التوازن المالي لهذه المصروفات. في حين كان من اللازم منحها الأولوية ليس فقط بسبب حجمها بل كذلك لكونها غير مفيدة وأحيانا مضرة بالأنشطة الاقتصادية. القطاع العسكري مستهلك وغير منتج ومستورد وغير مصدر.
من البديهي أن تقليص النفقات العسكرية غير ممكن بسبب التوترات المحلية والصراعات الإقليمية. لذلك لا توجد أية نية لدى الحكومة بتقليصها. كما لا تشترط الدول المانحة للمساعدات هذا التخفيض. بل يشجع الدعم المالي الخليجي بصورة أو بأخرى على تجنب هذا التقليص.
ومن النتائج المباشرة للعجز المالي هبوط الاحتياطي النقدي الأمر الذي يؤثر سلبياً على قدرة الوفاء بالالتزامات المرتبطة بالديون والاستثمارات الأجنبية وكذلك على إمكانية الدفاع عن القيمة التعادلية للدينار.

2- انخفاض الاحتياطي النقدي
يتكون الاحتياطي لدى المصرف المركزي من الفوائض الناجمة عن ميزان المدفوعات. ومن المعلوم أن دول مجلس التعاون تعتمد اعتماداً أساسياً على هذه الفوائض في تمويل عجز الميزانية العامة.
البحرين الدولة الخليجية الوحيدة التي تعاني منذ عدة سنوات من عجز ليس فقط في الميزان الجاري بل كذلك في الميزان التجاري (2). وعلى هذا الأساس هبط الاحتياطي النقدي بشدة خلال فترة قصيرة. فقد انتقل من 2040 مليون دينار في عام 2013 وإلى 556 مليون دينار في الربع الثالث من عام 2018.
لم يعد بالإمكان السحب من هذا الاحتياطي لتمويل عجز الميزانية بل لم يعد ممكناً السحب منه لسداد فوائد الديون العامة. في عام 2013 كان الاحتياطي النقدي يعادل أكثر من عشرة أضعاف فوائد الديون. وفي عام 2019 أصبحت الفوائد أعلى منه.
يترتب على هذا الانخفاض تدني قدرة الدولة على ترحيل أرباح الاستثمارات الأجنبية. مما يقود إلى تدهور التصنيف الائتماني. ويترتب عليه أيضاً إضعاف قدرة مصرف البحرين المركزي على الدفاع عن سعر صرف الدينار.
من الناحية المبدئية يتعين تخفيض هذا السعر بل قد تضطر الدولة إلى التخلي عن نظام التثبيت مقابل الدولار لتتبنى نظام التعويم. وهذا يشكل خطراً ليس فقط على مالية البحرين بل كذلك على مالية دول مجلس التعاون الأخرى. يفسر هذا الخطر أحد الأسباب التي دعت هذه الدول إلى تقديم المساعدات.
بفضل هذه المساعدات وتوقعات تحسن أسعار النفط يرى صندوق النقد الدولي أن الاحتياطي النقدي البحريني سيصل في نهاية العام الجاري 2019 إلى حوالي 750 مليون دينار. لكن هذا التحسن لا يزال بعيداً عن المستوى الذي كان عليه في عام 2013.
بسبب استمرار العجز المالي وظهور العجز التجاري وهبوط الاحتياطي النقدي لا تجد الدولة بداً من اللجوء المتزايد إلى الاقتراض الداخلي والخارجي. وهكذا تراكمت الديون العامة وأصبحت أزمة مستعصية.

3- تصاعد الديون العامة
لما كان العجز المالي ينجم بالدرجة الأولى عن المصروفات العسكرية والدعم الحكومي ولما كان العجز الجاري ينجم بالدرجة الأولى عن استيراد سلع مدنية وعسكرية استهلاكية فأن القروض العامة تمول في نهاية المطاف النفقات والواردات غير الإنتاجية. فلو وجهت هذه القروض للإنفاق الاستثماري لتحسن النمو وهو الكفيل بخدمة الديون. أن تمويل الإنفاق الاستهلاكي عن طريق القروض يفسر إذن صعوبة خدمة الديون الناجمة عنها.
في عام 2009 بلغ حجم الديون 1348 مليون دينار. وفي فبراير 2019 وصل إلى 11457 مليون دينار (3). أي ازداد بمعدل سنوي يفوق المليار دينار. كما تضاعفت الفوائد خلال هذه الفترة عشر مرات.

في عام 2007 شكلت الديون العامة 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي. ثم ارتفعت سنوياً حتى وصلت إلى 96.1% في عام 2018. وهنالك تقديرات (4) تشير إلى أن النسبة ستصل في العام الجاري 2019 إلى 104.5% ثم إلى 112.2% في العام القادم. علماً بأن الاتفاقية الخليجية المشار إليها آنفاً تقضي بأن لا يتجاوز الدين العام 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولما كانت علاقة الديون العامة بالناتج المحلي الإجمالي تساوي بالضبط علاقة الدين الفردي بالدخل الفردي فأن ذلك يعني ان ديون الفرد البحريني أصبحت أعلى من دخله.
وتتضح خطورة ديون البحرين من علاقتها بالفوائد. ففي عام 2009 دفعت الدولة فوائد قدرها خمسين مليون دينار عن ديونها البالغة 2441 مليون دينار. في حين باتت تدفع 553 مليون دينار (5) عن ديونها البالغة 11457 مليون دينار في مطلع عام 2019. أي انتقلت الفوائد خلال هذه الفترة مقارنة بحجم الديون من 3.7% إلى 4.8%. وهذا يدل على ارتفاع أسعار الفائدة في القروض الجديدة بسبب تردي الوضع المالي للبلد.
وتلعب فوائد الديون دوراً سلبياً وكبيراً في ارتفاع الإنفاق العام وبالتالي في العجز المالي. ففي عام 2008 كانت الفوائد تعادل 0.9% فقط من الإنفاق العام. لم تكن مشكلة المديونية مطروحة بحدة. ثم ارتفعت في السنوات الأخيرة فأصبحت تعادل 14.9% من الإنفاق العام لعام 2018. ثم بلغت 640 مليون دينار في عام 2019 أي 18.5% من الإنفاق العام.
ومن زاوية أخرى تنتج البحرين 200 ألف ب/ي من النفط. فإذا افترضنا بأن سعر البرميل 60 دولاراً فسنكون أمام الوضع التالي: في عام 2009 كانت الدولة تبيع 6 آلاف برميل في اليوم لدفع فاتورة الديون أي ما يعادل 3% من إنتاجها. أما في عام 2019 فقد بات من اللازم بيع 75 ألف برميل يومياً لسداد الفوائد أي ما يعادل 37% من إنتاجها.
نتيجة لاستمرار العجز المالي وهبوط الاحتياطي النقدي وتفاقم المديونية العامة تراجع التصنيف الائتماني. يقود هذا الوضع إلى تردي الوضع المالي للبلد. لذلك بات العمل من اجل تحسين هذا التصنيف من أهداف وأولويات برنامج التوازن المالي.

4- تردي التصنيف الائتماني
قررت الوكالات العالمية المعروفة خفض التصنيف الائتماني للبحرين (6). ومن المعلوم أن هذه الوكالات تعتمد على سلم لهذا التصنيف يحتوي كقاعدة عامة على عشرين درجة. يبدأ بدرجة أي أي أي وهي الأعلى وينتهي بدرجة سي سي وهي الأدنى.
وفق فيتش فقدت البحرين ست درجات من ناقص أي في فبراير 2011 إلى ناقص بي بي في فبراير 2019. وحسب ستاندرد أند بورز خسرت البحرين سبع درجات من أي 3 في مارس 2011 إلى زائد بي في نهاية 2017. أما موديز فترى بأن البحرين فقدت عشر درجات من أي في منتصف 2007 إلى بي 2 في نهاية 2018.
وهبوط التصنيف من قبل هذه الوكالات وبهذا المستوى يعني وجود مخاطر في الاستثمار الأمر الذي ينعكس سلبياً على ميزان المدفوعات. كما يعني ارتفاع تكلفة الاقتراض الخارجي خاصة أسعار الفائدة. وفي الحالتين ترتفع الديون العامة ويزداد بالتالي العجز المالي.
استندت الوكالات المذكورة في تخفيضها الائتماني إلى التوفيق بين عدة مؤشرات. في مقدمتها حصول البحرين على مساعدات مالية خليجية وإمكانية تلكؤ البنك المركزي عن تلبية الطلب المتزايد على النقد الأجنبي واستمرار العجز المالي وعدم وضوح السياسة المالية وتفاقم المديونية العامة. بمعنى آخر أن المؤشر الإيجابي الوحيد هو الدعم المالي الخليجي. وبالتالي كان من الممكن أن يهبط التصنيف الائتماني بصورة اكبر لولا المساعدات التي تقدمها السعودية والإمارات والكويت. لذلك من الخطأ تجاهل أهمية هذه المساعدات.
نستنتج مما تقدم أن العجز المالي البحريني اصبح خطيراً. بات من اللازم معالجته بصورة جدية. قررت الدولة إذن برنامجاً خمسياً لتحقيق التوازن المالي يبدأ من عام 2018 وينتهي بعام 2022. ولكن إذا كان من المهم إعادة التوازن إلى ميزانية الدولة فأن الأهم هو الثمن الذي يتعين دفعه للوصول إلى هذه الغاية. وهكذا يتعين تحليل البرنامج للتعرف على تداعياته خاصة من حيث تأثيره على مستوى معيشة المواطنين.

برنامج التوازن المالي
يتضمن الترتيبات اللازمة لإصلاح مالية الدولة وتحقيق التوازن المالي بحلول عام 2022. ويقدر البرنامج الاحتياجات المالية بمبلغ عشرين مليار دولار (7.5 مليار دينار). ويوزع هذا المبلغ مناصفة بين المساعدات الخليجية وجهود الحكومة البحرينية في إعادة هيكلة الميزانية العامة.

1- المساعدات الخليجية
قررت السعودية والإمارات والكويت منح عشرة مليارات دولار للبحرين خلال فترة برنامج التوازن المالي (7). استلمت المنامة مبلغاً قدره ملياري دولار في نهاية العام المنصرم 2018 لإضافته إلى ميزانية العام الجاري 2019. وسيقرر مبلغ مماثل في نهاية العام الحالي لإضافته إلى ميزانية العام القادم وهكذا. ووفق البرنامج ستصرف هذه الأموال لتمويل فوائد الديون العامة من جهة وعجز الميزانية من جهة أخرى.
والمساعدات ليست هدايا بل قروض طويلة الأمد وبدون فائدة. وبالتالي يتعين سدادها عندما يحين موعدها. وعلى هذا الأساس فأن هذه الأموال تمثل التزامات مالية تضاف إلى ديون الدولة. وأما في حالة الإعفاء منها فأن تداعياتها ستكون ذات أبعاد سياسية.
هذه المساعدات تعطي نفساً جديداً للمالية البحرينية المختنقة. وبدونها يصعب دفع فوائد الديون المتزايدة. كما أنها تمنع تدهور سعر صرف الدينار مقابل الدولار. ولكن لا ينبغي المبالغة في دورها الاقتصادي.
ترى هل ترتبط المساعدات المالية الخليجية بالبرنامج البحريني؟ بمعنى آخر هل ستتوقف بانتهاء فترة البرنامج؟
سيستمر الدعم الخليجي بغض النظر عن البرنامج ونتائجه. فهو ضروري حتى في حالة توازن الميزانية. وسيستند إلى المعايير الثلاثة التالية:
المعيار الأول. البحرين اصغر اقتصاد خليجي. وبالتالي لا تمثل المساعدات عبئاً ثقيلاً على مالية الدول الخليجية المانحة.
المعيار الثاني: الشروط. تعاني دول الخليج مشاكل مالية عديدة لأسباب ترتبط بأسعار النفط وبنفقاتها العسكرية. كما أنها تطبق سياسات تقشفية لمعالجة أوضاعها المالية المتردية. لذلك ستكون مساعدتها للبحرين مشروطة ببرنامج إصلاحي اكثر صرامة من البرنامج الحالي. سيترتب على ذلك تردي مستوى معيشة المواطنين. ولكن يجب أن لا تكون الشروط قاسية تفادياً لاستغلالها سياسياً من قبل المعارضة البحرينية.
المعيار الثالث والأهم: الدور الإيراني. ستستمر المساعدات المالية الخليجية للبحرين ما دامت إيران تشكل خطراً على أمن المنطقة.

2- إعادة هيكلة الميزانية العامة. ست مبادرات
المبادرة الأولى. تقليص المصروفات المتكررة للمؤسسات الحكومية. يدعو البرنامج إلى تخفيض مصروفات السفر والإيجارات وصيانة المباني العامة وغيرها. وتبلغ هذه المصروفات 1978.1 مليون دينار في عام 2019 أي 57.3% من النفقات العامة. وبالتالي يؤدي تقليصها بالتأكيد إلى خفض العجز المالي بصورة فاعلة. ولكن هذه المصروفات اتجهت نحو الارتفاع في عام 2018 ثم نحو الهبوط في عام 2019.
المبادرة الثانية: التقاعد الاختياري. ستقود هذه المبادرة الجديدة إلى خفض العجز المالي نظراً للمكانة التي تحتلها المرتبات البالغة 40% من النفقات العامة.وسنعود إلى تفصيل هذه النقطة لأهميتها المالية وتداعياتها الاجتماعية.
المبادرة الثالثة: توازن ميزانية هيئة الكهرباء والماء. تقدم ميزانية الدولة دعماً لتعضيد أسعار الكهرباء والماء. ويشكل هذا الدعم مساعدة مالية لهذه الهيئة. يهتم البرنامج اهتماماً منقطع النظير بتقليص هذا الدعم تدريجياً ليصل إلى الصفر. وهكذا انتقل حجمه من 229.6 مليون دينار في عام 2017 وإلى 188.7 مليون دينار في عام 2018. ثم إلى 141.0 مليون دينار في عام 2019. والتقليص التدريجي يعني بالضرورة ارتفاع تدريجي لأسعار الكهرباء والماء.
المبادرة الرابعة: تقليص الدعم الحكومي المباشر. إضافة إلى الدعم الموجه للكهرباء والماء تقدم الدولة إعانات أخرى منها المساعدات لذوي الدخل المنخفض ولأصحاب الحاجات الخاصة وللعاطلين عن العمل وإعانات للسكن. والواقع أن تقليص هذا الدعم ليس بالأمر الهين بل قاد إلى توترات اجتماعية إضافية. لذلك إذا نظرنا إلى الدعم الحكومي بصورة إجمالية نجد انه انخفض في عام 2018 قياساً بالعام السابق. ولكن إذا استثنيننا الدعم الموجه للكهرباء والماء نلاحظ انه ارتفع من 423.6 مليون دينار في عام 2017 وإلى 455.6 مليون دينار في عام 2018. أما ميزانية 2019 فقد استمرت في تقليص دعم الكهرباء والماء وكذلك المساعدات المخصصة للمتقاعدين. وهكذا انخفض المجموع الكلي للدعم بمبلغ 105 مليون دينار في العام الجاري مقارنة بالعام السابق.
والدعم الحكومي المباشر قد يكون ضرورياً لأسباب إنسانية وعلمية. وبالتالي لا يجوز تقليصه بصورة جزافية. ومن ذلك دعم العائلات منخفضة الدخل والدعم الموجه لجامعة البحرين وبوليتكنك البحرين.
المبادرة الخامسة: تعزيز كفاءة الإنفاق الحكومي. وتتضمن إنشاء آليات ومكاتب للرقابة المالية على المشتريات الحكومية وتصرفاتها المالية الأخرى. وتتسم هذه المبادرة بالعمومية. كما أنها ضرورية بصرف النظر عن الوضع المالي للميزانية العامة. علماً بأن الآليات والمكاتب لا تكفي للتصدي للفساد المالي والإداري.
المبادرة السادسة: زيادة الإيرادات غير النفطية. تتأتى هذه الإيرادات من عدة مصادر وهي الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الانتقائية والرسوم الجمركية والرسوم المفروضة على العمال الأجانب والرسوم الإدارية وأحياناً الخصخصة.
في عام 2018 بلغت الإيرادات غير النفطية 547.2 مليون دينار أي 23.0% من الإيراد العام للدولة. وهي تشهد تصاعداً سنوياً وبصورة عالية. فقد ارتفعت بنسبة 12.9% مقارنة بالعام السابق. وفي إطار التوازن المالي تشهد هذه الإيرادات ارتفاعا كبيراً في العام الجاري لثلاثة أسباب:
السبب الأول زيادة الرسوم على الخدمات الحكومية. والسبب الثاني زيادة رسوم استقدام العمال الأجانب من 200 إلى 500 ديناراً مع ارتفاع الرسوم الشهرية المفروضة عليهم. والسبب الثالث والأهم إدخال الضريبة على القيمة المضافة (8) التي تفرض على السلع والخدمات بسعر 5%. قدرت حصيلتها في العام الحالي بمبلغ 150 مليون دينار أي خمس المبلغ المستهدف في برنامج التوازن المالي.
ويلاحظ أن هذه المبادرة السادسة هي الوحيدة المتعلقة بالإيرادات العامة.إذ أن جميع المبادرات الأخرى ترتبط بالإنفاق العام.
وصلت حصيلة الإيرادات غير النفطية في عام 2019 إلى 713 مليون دينار أي 25.9% من الإيرادات العامة. وسترتفع إلى 777 مليون دينار في عام 2020 أي 27.0% من الإيرادات العامة.
لا يوجد في برنامج التوازن المالي تقديراً رقمياً لكل مبادرة من هذه المبادرات الست. بل ينص فقط على أن مجموع المبادرات سوف يقود إلى توفير 800 مليون دينار سنوياً (9).
تعطي هذه المبادرات انطباعاً باستقلالها الواحدة عن الأخرى. والواقع أنها متداخلة. وهذا خطأ منهجي واضح قد يفضي إلى استنتاجات غير دقيقة. فالدعم المقرر لهيئة الكهرباء والماء جزء من الدعم الحكومي المباشر. وهذا الأخير جزء من النفقات المتكررة. وهذه جزء من الإنفاق العام. وبالتالي يكفي أن يتقلص الدعم الموجه للكهرباء والماء كي تحقق ثلاث مبادرات أخرى هدفها.
نستنج من هذه المبادرات أن الإصلاح المالي يتم عبر التأثير سلبياً على مستوى معيشة المواطنين: ثلاث مبادرات تقود مباشرة إلى ارتفاع الأسعار وهي توازن ميزانية الكهرباء والماء وتقليص الدعم الحكومي المباشر وزيادة العبء الضريبي. وسوف تتضرر بشدة الفئات الاجتماعية منخفضة الدخل. ولا يوجد في المبادرات الأخرى أي تأثير إيجابي على ذلك المستوى. بل سيفضي التقاعد الاختياري إلى انخفاض دخول المتقاعدين.

3- التقاعد الاختياري
ينص برنامج التوازن المالي على ما يلي: “يهدف برنامج التقاعد الاختياري إلى إعطاء موظفي الجهات الخاضعة لديوان الخدمة المدنية الفرصة في توظيف خبراتهم في مجال ريادة الأعمال والقطاع الخاص للمساهمة في النمو الاقتصادي للمملكة…” (10).
منحت هذه المبادرة لمن يرغب في إحالة نفسه للتقاعد عدة امتيازات: ضم خدمة اعتبارية مدتها خمس سنوات والحصول على مبلغ نقدي إضافة إلى مكافئة نهاية الخدمة (11). ويشترط أن لا تقل مدة الخدمة الفعلية في الوظيفة العمومية عن عشر سنوات. والنص أعلاه واضح في سريانه على المدنيين دون العسكريين.
للوهلة الأولى يبدو من خلال هذه الامتيازات أن المبادرة تقود إلى زيادة الإنفاق العام. وبالتالي فهي ليست في مكانها المناسب. إذ يستوجب برنامج التوازن المالي الضغط على النفقات العامة وليس العكس. ولكن الهدف النهائي لهذه المبادرة هو خفض المصروفات. لذلك تستوجب الشفافية أن يشير البرنامج أيضاً إلى كيفية مساهمة هذه المبادرة في التوازن المالي.
كما يوحي النص أعلاه بعدم مساهمة القطاع الحكومي في النمو وذلك على عكس القطاع الخاص. وهذا افتراض غير منطقي. فهنالك أنشطة حكومية تلعب دوراً هاماً في التنمية كالصحة والتعليم والمشاريع الإنتاجية المختلفة. كما لا يعير برنامج التوازن المالي أية أهمية للنتائج السلبية لهذه المبادرة خاصة الخلل الذي سيلحق بالخدمات التي يقدمها القطاع الحكومي جراء التخلي عن الوظيفة العمومية. وقد أشار صندوق النقد الدولي (12) إلى هذه المشكلة وطلب من الحكومة معالجتها.
لما كانت اشتراكات الموظفين مصدراً أساسياً من المصادر المالية لصناديق التقاعد ولما كان التقاعد الاختياري يمثل ضغطاً جديداً وقوياً على هذه الصناديق يتعين العمل على تنمية مواردها بعدة وسائل: تشجيع التوظيف في القطاع الخاص لتعويض خسارة الاشتراكات المتأتية من القطاع الحكومي. والبحث عن مجالات استثمارية مربحة. وزيادة مساهمة الحكومة في دعم مالية الصناديق. وبخلاف ذلك تتعرض صناديق التقاعد للانهيار خاصة وأنها تعاني أساساً من مشاكل مالية وإدارية.
لكن زيادة العاملين في القطاع الخاص غير أكيدة لأسباب عديدة. الشركات لا توظف إلا في نطاق حاجتها. كما يعاني الاستثمار من ركود واضح. ويفضل البحرينيون كالخليجيين الآخرين العمل في القطاع الحكومي بدلاً من القطاع الخاص. كما يفترض في صناديق التقاعد الاستثمار في الميادين المربحة بغض النظر عن مقتضيات التوازن المالي.
تقدم ميزانية الدولة لصناديق التقاعد مساعدات تسمى “علاوة تحسين مستوى المعيشة للمتقاعدين”. في عام 2017 بلغت 118 مليون دينار وارتفعت في عام 2018 إلى 132 مليون دينار. ويبدو أن عام 2018 لم يكن مناسباً لتقليص هذه المساعدات. لذلك تولت ميزانية 2019 هذه المهمة. إذ لا يعقل في نطاق التوازن المالي أن تتنصل الدولة من التوظيف في القطاع الحكومي لتقليص الإنفاق العام ثم تدفع المزيد من المساعدات للمتقاعدين فيرتفع الإنفاق العام.
وهكذا عادت هذه العلاوة إلى الهبوط لتصل إلى 116.0 مليون دينار في العام الجاري 2019. وحدد نفس هذا المبلغ للعام القادم.
وفق الإحصاءات الرسمية تقدم صناديق التقاعد مرتباً شهرياً معدله 728 ديناراً للفرد الواحد. ويبلغ عدد المستفيدين 69 ألف شخص من القطاعين الحكومي والخاص في نهاية عام 2018 (13). بعملية حسابية بسيطة نستخلص أن هذه الصناديق تدفع سنوياً 602 مليون دينار. وتعاني كثيراً من صعوبة في توفير هذا المبلغ. نظام التقاعد الاختياري يمكن أن يشمل 42 ألف موظف (14). وعلى افتراض نجاح الحكومة في تحقيق المبادرة أي إحالة هذا العدد إلى التقاعد يصبح من اللازم على الصناديق الحصول على مبلغ إضافي سنوي قدره 366 مليون دينار لدفعه لهؤلاء المتقاعدين الجدد. وهذا أمر في غاية الصعوبة.
انطلاقاً من المؤشرات المذكورة ستتقلص إذن مرتبات التقاعد بسبب هذه المبادرة. عندئذ لا تقتصر تداعيات التوازن المالي على ارتفاع أسعار السلع والخدمات بل سوف تشمل أيضاً هبوط دخول المواطنين.

4- تقليص عجز ميزانية 2019
حققت الميزانية الحالية خطوة مهمة في تقليص العجز بصورة فاعلة. فقد انتقل حجمه من 1315.5 مليون دينار في عام 2018 إلى 707.5 مليون دينار في عام 2019. أي استطاعت تقليص العجز بمبلغ 608 مليون دينار (15). كيف تحقق هذا الإنجاز؟
عند دراسة الميزانية للعامين المذكورين نجد أن هذا المكسب يتأتى من أربعة عوامل:
العامل الأول تصاعد إيرادات النفط. فقد انتقلت من 1796 مليون دينار في عام 2018 وإلى 2032 مليون دينار في عام 2019. أي بزيادة قدرها 236 مليون دينار. بمعنى أن قسطاً كبيراً من ذلك المكسب لا يتأتى من جهود حكومية ولا علاقة له بمبادرات برنامج التوازن المالي بل من مجرد ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية.
العامل الثاني تحسن الإيرادات غير النفطية. استطاعت الدولة تحقيق زيادة في هذه الإيرادات بمبلغ 138 مليون دينار. شهدت بعض الإيرادات هبوطاً. ولكن إدخال الضريبة على القيمة المضافة أدى إلى زيادة واضحة في هذه الإيرادات غير النفطية.
العامل الثالث انخفاض الدعم الحكومي المباشر. قادت المبادرة إلى تقليص الدعم بمبلغ 105 مليون دينار.
العامل الرابع هبوط المصروفات الإنمائية. في ميزانية عام 2018 بلغت هذه المصروفات 330 مليون دينار ثم هبطت إلى 200 مليون دينار في ميزانية عام 2019. وهكذا اقتصدت الدولة 130 مليون دينار. في حين يتطلب الوضع الاقتصادي البحريني العكس تماما. هذا الهبوط مساهمة فاعلة في تدني معدل النمو المنخفض أساسا.
يفترض برنامج التوازن المالي أن المبادرات الست ستقود كما ذكرنا إلى خفض العجز المالي بمبلغ 800 مليون دينار سنويا. في حين تقدر ميزانية 2019 الخفض بمبلغ 608 مليون دينار. وعلى هذا الأساس سيحدث نقص قدره 192 مليون دينار سيمول عن طريق المساعدات الخليجية والقروض فترتفع المديونية العامة مجددا.

خاتمة
نستنتج مما تقدم بأن الأزمة المالية في البحرين خطيرة وتتطلب معالجة فاعلة ونهائية. بلا شك سيقود البرنامج الحكومي الخماسي إلى تقليص العجز وقد يحقق هدفه في التوازن. ولكن آلياته تقود بالضرورة إلى تردي مستوى معيشة المواطنين عن طريق ارتفاع الأسعار وانخفاض الدخول. بات من اللازم إجراء تعديلات جوهرية على هذا البرنامج. وفيما يلي الخطوط العريضة لهذه التعديلات.
1- ضرورة تقليص الإنفاق العسكري إلى أقصى حد ممكن.
2- تقليل اللجوء إلى المساعدات الخليجية والاعتماد على الذات في إدارة الشؤون المالية للبلاد.
3- إصلاح النظام الضريبي. ويتضمن فرض ضرائب على دخول الأفراد والشركات. ينبغي أن تستجيب الضرائب لثلاثة أهداف في آن واحد: الحصيلة المالية والعدالة التوزيعية والتنمية الاقتصادية.
4- تمديد فترة التوازن المالي. خمس سنوات غير كافية لسببين على الأقل: أولهما ضخامة الأزمة المالية. وثانيهما ضرورة منح فرصة واسعة للمواطنين للتكيف مع التحولات المالية. عشرة أعوام بدلاً من خمسة.
5- الكف عن تخصيص مبالغ سنوية لصالح شركة ممتلكات. كما يتعين الشروع بتصفيتها.
6- بذل الجهود في سبيل تحسين أداء حسابات ميزان المدفوعات المتعلقة بالسلع والخدمات. والعمل على تقليص تحويلات العمال الأجانب التي تمثل عبئاً ثقيلاً على مالية الدولة. فهي تمتص ربع العوائد النفطية.

المراجع
1- اعتمد هذا المقال على الوثائق الرسمية منها قانون الميزانية العامة 2017-2018. وزارة المالية. ومشروع قانون الميزانية العامة 2019-2020. مجلس النواب.
2- تسجل البحرين عجزاً تجارياً للسنة الثالثة على التوالي. راجع مصرف البحرين المركزي. النشرة الإحصائية. فبراير 2019. الجدول 41.
3- مصرف البحرين المركزي. الجدول رقم 11.
4- راجع
Statista. « Dette nationale brute de Bahreïn par rapport au produit intérieur brut (PIB) entre 2010 et 2020.
5- فوائد الديون مذكورة في حقل النفقات للميزانية العامة.
6- راجع مواقع هذه الوكالات
Fitch.com . standardandpoors.com . moody’s.com
7- حكومة مملكة البحرين. برنامج التوازن المالي. الصفحة 8.
8- المرسوم رقم 48 لسنة 2018. دخل حيز التنفيذ في مطلع عام 2019.
9- برنامج التوازن المالي. الصفحة 23.
10- برنامج التوازن المالي. الصفحة 25.
11- الامتيازات المالية للتقاعد الاختياري مذكورة على موقع ديوان الخدمة المدنية.
12- بعثة صندوق النقد الدولي. مشاورات المادة الرابعة.
IMF. IMF Staff Completes 2019 article IV Mission to Bahrain. March 5,2019.
13- بيان صادر عن الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي.
14- تصريح لديوان الخدمة المدنية. أكتوبر 2018.
15- الأرقام الواردة في هذه الفقرة حسابات أجراها المؤلف.