خاص الموقع

الخرطوم تدفع فاتورة "قمة مكة"

في 2019/06/03

فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج
خلال ساعات آخر ليالي شهر رمضان المبارك، استغلالًا للفرصة، ودون مراعاة لقدسية أو دماء ذكية، هاجمت قطعان ميليشيات الأمن السوداني، المعتصمين التواقين للتغيير في ساحة القيادة، مخلفة ورائها الموت والإصابات، وغلالة كثيفة من دخان الشك، ستخيم كثيرًا على مستقبل البلد العربي المنكوب، بل الأكثر نكبة بقيادات نظامه السابق، المتمسكين بكراسي السلطة وزناد البندقية.
بداية، فإن الوهم الذي حرك الجنرال "حميدتي"، ومن معه من أعضاء المجلس العسكري، متبدد حتمًا، فالجماهير المعتصمة، والتي زحفت فور وقوع عمليات الهجوم البشعة على الثوار، لم تخرج بحثًا عن رفاهية، بل انتفضت بحثًا عن حياة، لم يكن وطن "البشير" وطغمته العسكرية يضمنها للسواد الأعظم من الشعب، الأزمة الاقتصادية بالسودان كانت –ولا تزال- تمسك بتلابيب المواطن، وتمنعه من التفكير في أي مستقبل، قرب أم بعد.
ويكفي للتدليل على عمق الأزمة الحياتية للسواد الأعظم من الناس، معرفة أنه في حين يبلغ متوسط الرواتب نحو 1600 جنيه سوداني، فأن رغيف الخبز وصل إلى 5 جنيهات، وكيلو اللحم إلى 250 جنيهًا، في بلد زراعي بالدرجة الأولي، مع انهيار الجنيه السوداني أمام الدولار الأميركي، من 47 جنيه للدولار في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى 72 جنيه للدولار حاليًا.
ومع الحصار الغربي على السودان، تألفت طبقة جديدة من المنتفعين، كما حدث سابقًا في العراق زمن حكم صدام حسين والبعث، وما يهم هذا الطبقة المسيطرة على المال والسلطة أن تستمر المعاناة، وأن يستمر النقص، لتتكسب أضعاف مضاعفة من الاستيراد على حساب المصلحة العامة للناس.
التصرف البائس ذاته، لجأ له "مبارك" الرئيس المصري الأسبق، عبر ميليشيات حزبه، وقطعان من المؤيدين المستأجرين بالمال، فيما بات يعرف تاريخيًا بـ "موقعة الجمل"، وزادت تلك الحادثة من التفاف المصريين حول هدف التخلص من مبارك، وعمقت القطيعة التامة مع زمنه، كانت القشة التي كسرت كل دعوى كاذبة للاستقرار والاستمرار، ولم تمر أيام سوى والرئيس الأسبق خارج قصر الحكم، ومن ثم، إلى السجن.
لكن المشهد السوداني سبقه مشهد آخر، أدى إلى تلك العجلة والرعونة، الواصلة حد التهور، وكان في البقعة المقدسة مكة المكرمة، حيث اجتمع قادة الأنظمة العربية، لتمرير ما يسمونه "صفقة القرن"، وللتخطيط للمزيد من السيطرة والتمدد لحلف السعودية-الإمارات، وتابعهم السيسي.
التدخل السافر في الشأن السوداني بدأ فور وقوع الانتفاضة ضد حكم "البشير"، ووجهت كل من السعودية الإمارات 3 مليارات دولار، خلال شهر إبريل/نيسان الماضي، إلى السودان، كبادرة لما يستطيعان تقديمه للحكام الجدد في الخرطوم، وهذا هو لب القضية، ويبدو فيه التشابه مع الوضع المصري لافتًا، وعقب عزل الرئيس المصري المنتخب الدكتور محمد مرسي، تدفقت المنح والمساعدات من السعودية والإمارات إلى النظام الحالي، بل ووفرت له السعودية –في عهد الملك السابق عبد الله- الدعم الدولي والحماية.
ما حدث، وسيحدث، في الخرطوم، هو التعبير الأصدق والفعلي عن "مؤامرة مكة"، بحق كل شعب عربي.
الخطة السعودية-الإماراتية للحفاظ على كل موقع نفوذ لهم، مع قرب انتهاء فترة رئاسة "ترمب"، بصك التصرف على بياض الذي يوفره لهم، والمتعذر إيجاده مع أي إدارة أميركية أخرى، مع سريان تيار عام يؤكد أن صدفة دخول "ترمب" البيت الأبيض لن تتكرر، وأن المؤسسات الأميركية، وورائها مؤسسات صنع وتوجيه الرأي العام، لا تجد فيه رجلًا يصلح لمواجهة زلازل التغيرات العالمية، والتهديد بفقدان موقع القطب العالمي الأوحد.
القمة العربية، التي يمكن وصفها بقمة الانحطاط، لا غير، وفرت الدعم لـ "حميدتي"، في جهود تفريغ الشارع السوداني، باعتباره الحليف المضمون هناك، وبالتالي انتزاع ورقة جديدة من حلف قطر-تركيا، وتعزيز موقفهم المستقبلي لدى ساكن البيت الأبيض المقبل.
القتل الإجرامي الذي دخل عامه الخامس في اليمن، يختبر أيامه الأولى في السودان، وللمفارقة المأساوية، فإن الجنرالات السودانيين أعلنوا سابقًا، وفي أكثر من مناسبة، استمرار تواجدهم العسكري في اليمن، وكأن الشعوب العربية صار عليها أن تتقاتل حتى الموت، لضمان استمرار نفوذ بن سلمان وبن زايد، وامتلاء الحسابات البنكية لغيرهم من التابعين بغير إحسان ولا عقل.
مؤامرات قصور حكم الخليج تُترجم فورًا إلى رصاصات في صدور الأحرار، على امتداد العالم العربي كله، من سوريا إلى العراق، ومن اليمن إلى السودان فليبيا، الأموال تتدفق على حفنة من العسكريين، لا يجيدون ممارسة القتال إلا ضد العزل من مواطني شعوبهم، المنكوبة بهم، وبشرور جيران الخليج الأغنياء.