خاص الموقع

الإمارات.. الهدف القادم

في 2019/09/20

فؤاد السحيباني- راصد الخليج-

تغازل حكاية الفيلسوف الإغريقي "أفلاطون" عن المدينة الفاضلة، مخيلة الإنسان، طوال عشرات القرون، مدينة تحقق لسكانها الرفاهية والعدل والرخاء، مع حفاظها على مستوى متفوق من النظم الإدارية والقانونية، وتضمن دخل مرتفع ودائم للعمال والموظفين، مع اهتمام بالغ النشء، ولا مكان في الشرق الأوسط أفضل لتحقيق الحلم من "الإمارات"، واحدة من أحدث دول العالم، بعدد سكان قليل للغاية، وبثروة بترولية وموقع، يضمنان لها تدفقات مالية غير محدود، جعلتها في السنوات العشر الأخيرة واحدة من أكثر دول العالم تقدمًا ورفاهية.

وزارة السعادة الموجودة في الإمارات جاءت كشاهد أوفى على اتجاه الأسر الحاكمة إلى بناء نموذج ملهم، يستقطب قلوب وعقول شعوب المنطقة، ويسمح بانتقال ألمع العقول العربية إلى الإمارات، بدلًا من الاتجاه إلى أوروبا، فهنا كل شيء أوروبي، وربما تتفوق دبي على معظم مدن أوروبا الكبرى في وسائل مواصلاتها ومستوى الخدمات التكنولوجية، وبالتالي ضمنت على الأقل أن تكون نموذجًا، قادر على النفاذ والتأثير، دونما لجوء للقوة، فقط القوة الناعمة.

بريطانيا التي هندست الخليج قبل رحيلها مطلع السبعينيات، وضعت الإمارات العربية عند ملتقى نقطة التقاء العرب بالعالم، في الخليج العربي ومن ورائه إيران وآسيا الوسطىن حيث الكتلة السكانية الإسلامية الأضخم، وجنوبًا البحر العربي، ومن بعده المحيط الهندي، وطرق التجارة الأقدم في التاريخ، وفي قلب بحيرة النفط الهائلة، الأهم عالميًا.

ورسم وليام لوس، المستشار البريطاني المعتمد في عدن والذي هندس تشكيل "اتحاد إمارات الجنوب العربي"، في 1959، ثم "دولة الإمارات العربية المتحدة"، في 1971، خريطة تخاصم الأزمات، بعكس السياسة البريطانية الراسخة، بترك أي منطقة فوارة بالمشاكل ومتصدعة بالصدامات، وبالتأكيد فإن الاعتماد البريطاني –وقتذاك- على بترول الخليج، ثم نظام الشاه القائم بالجوار، كان يكفي لندن للاطمئنان.

وبسرعة تحولت الدولة المستقلة حديثًا إلى تجربة فريدة، وساعدها إعلام كان ينتشر بسرعة في تلميع التجربة والمؤسس، وبث دعاية قائمة على إمكانية التفوق دون حمل قضايا قومية أو وطنية تستنزف الموازنات، في هذا الوقت كانت دول الطوق العربي (مصر وسوريا) تخوضان حرب إعادة بناء جيوشهما، قبيل حرب تشرين/أكتوبر التحريرية.

استمرت الإمارات في مسيرة طويلة من محاولات بناء تجربة تنموية، سرعان ما وجدت لها صدى واسع، مع الأزمات العاصفة بأغلب الدول العربية، خصوصًا تلك التي تتمتع بوزن سكاني ضخم، مثل مصر والجزائر وسوريا والسودان،

لكن، وفجأة، قررت الإمارات تغيير كل شيء، وتدخلت عسكريًا في اليمن، سعيًا لفرصة وجدتها متاحة للسيطرة على عدن، منافس دبي الأول والأهم، والرمز الذي يذكر حكام الإمارات بالثقل التاريخي العظيم للجار اليمني.

ولإن الدرس الأول في السياسة هو أن إستراتيجية خاطئة ستؤدي حتمًا إلى نكبة، فقد ذهبت الإمارات مختارة إلى نكبة، كشفت كل أسباب الضعف الكامن، وراء بنية زجاجية، مستوردة بالكامل، ورأينا دولة مسخ، لا هي دولة عربية، ولا هي متقدمة، مجرد استنساخ لأحدث منتوجات العالم من التكنولوجيا والرفاهية، دون قدرة إنتاج أو تجديد هذه البنية الغريبة.

وهنا لا بد من وقفة، تعيد قراءة القصة الإماراتية، من بوابة الأرقام، وهي الحقيقة المجردة الأكثر سطوعًا وتعبيرًا عن الحال، فالأرقام محايدة، لا تنحاز أو تجامل، وهي قادرة –إذا ما أُحسن قراءتها- على ترجمة الواقع، وبالتالي إصدار الحكم البات النهائي على تجربة اقتصادية اكتملت أركانها، وأخذت مداها.

فإن الاقتصاد الإماراتي ليس هو التاكسي الطائر أو المدن الذكية، بل هو أقرب إلى بنية مستوردة بالكامل، تستفيد من الريع النفطي من جهة، ومن تراجع عدد السكان، نسبة لإجمالي الدخل القومي، عدد السكان 9.34 مليون نسمة منهم 1.58 مليون مواطن والباقي وافدين.

للمفارقة هنا فإن الخدمات المقدمة للمواطن، في أية دولة خليجية، لا يمكن على الإطلاق مقارنتها بما يقدم للوافد، فلا تأمين صحي أو اجتماعي، ولا التزام على الدولة بالمساعدة، والأهم، لا يطالب أحد بحقوق الوافد ويدافع عنها، ولن تصبح قصص معاناة الوافدين أخبارًا تتصدر الصحف والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، تطلب التدخل من الحاكم.

ولمعرفة الفارق المذهل الناتج عن تراجع عدد السكان بالنسبة لمستوى المعيشة، يأتي تقرير صندوق النقد الدولي –الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2017- بمفاجأة أن الاقتصاد المصري الذي يعاني الأمرّين يتفوق بفارق ضخم على الاقتصاد الإماراتي، إذ يبلغ الناتج القومي لمصر حسب تعادل القوى الشرائية، أو الناتج القومي الحقيقي بالأسعار الثابتة (PPP)، نحو 1.197 ترليون دولار، فيما يبلغ الإماراتي 693.7 مليار دولار فقط.

تقرير "صندوق النقد" كان كاشفًا أيضًا لحقائق جديدة، يُغيبها الإعلام الممول خليجيًا، وعلى رأسها أن ايران، رغم ظروف الحصار الممتد منذ قيام الثورة، ورغم التهديدات الأميركية بالنكوص عن الاتفاق النووي، تتفوق بمرتين ونصف على الإمارات، ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة 1.535 ترليون دولار، بفارق بسيط خلف كل من إسبانيا وكندا، وتقبع في المركز الـ 18 عالميًا، وهي ذاهبة لمدار آخر، إذا ما تم فعلًا رفع الحصار عنها، وتمكينها من تجديد بنيتها الصناعية، والاستفادة من العلاقات التجارية مع أغلب الدول الأوروبية، والذهاب أبعد في مشروع الصين الأضخم "طريق الحرير".

وإذا كانت الحرب طريق الأمم الحرة نحو إيجاد ذواتها، وكتابة التاريخ، واستفتاح المستقبل، ولو بالقوة والنار، وصهر معادن الرجال، وصقل الروح الوطنية، وتوحيد الأيدي والقلوب، واكتشاف طرائق جديدة إلى العلا، وتأسيس معادلات التقدم والانتقال إلى عصر جديد، فإن الكارثة الإماراتية كانت يوم قررت الحرب! فكسرت النموذج الهش، وفضحت ضعفها وبؤس تخطيطها.

اليوم يأتي خطاب الحوثيين على لسان الناطق العسكري باسمهم العميد يحيى سريع، المهدد القاطع، بوضع الإمارات ضمن بنك الأهداف اليمني، فارقًا، فالدولة القائمة على الاستقرار، والتي حولتها التدفقات البترودولارية إلى مركز مالي عالمي، مهددة بفقدان كل شيء، في لحظة واحدة.

فهل يفعلها حكام الإمارات، ويكملون طريق، كانوا قد بدأوه للانسحاب من اليمن، أم يسيطر عليهم الغباء، والعمى، ولا ينظرون إلى توقف نصف صادرات النفط السعودي، بفعل ضربة يمنية واحدة مباركة.