ملفات » قضية جمال خاشقجي

دماء خاشقجي تعيد الروح للربيع العربي

في 2019/10/02

الخليج الجديد-

"الربيع العربي لم يُدَمِر.. من حاربه وتآمر عليه هو المُدَمِر، وإلا لكنت اليوم أيها الشاب تنعم بعليله وحريته وتسامحه ووظائفه وخيره"..

هكذا رد الكاتب الصحفي الراحل "جمال خاشقجي" على أحد متابعيه السعوديين عبر "تويتر" عندما ادعى أن "الربيع العربي دمر المدن وقتل الأبرياء"، وذلك قبل شهر من اغتياله داخل قنصلية المملكة بمدينة إسطنبول التركية في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.

وجاء رد "خاشقجي" معبرا عن تلك الروح التي سرت في أنحاء العالم العربي ابتداء من يناير/كانون الثاني 2011، وكادت أن تختنق تماما بعد الانقلاب العسكري بدعم سعودي، في 3 يوليو/تموز 2013، على "محمد مرسي" أول رئيس مدني منتخب ديموقراطيا بمصر.

لكن اغتيال كاتب المقالات بصحيفة "واشنطن بوست" وبشاعة تفاصيل الجريمة بحقه ردا الروح مجددا إلى أوصال ربيع العرب، الذي ظن العديد من المراقبين أنه انزوى إلى غير رجعة، حسب مراقبين.

إعادة اعتبار

فخلال فترة ما بين انقلاب مصر واغتيال "خاشقجي" أدارت السعودية سياستها الخارجية بمنهجية تعتمد على حذف كل مكتسبات الربيع العربي إقليميا؛ ما أدى إلى حدثين كبيرين أحدهما هو الصدام مع قطر، والثاني هو حرب اليمن.

أعلنت الرياض تحالفا مع أبوظبي والمنامة والقاهرة لفرض قطع شامل في العلاقات مع الدوحة في 5 يونيو/حزيران 2017، في أزمة أشار "خاشقجي" إلى أن أصلها يعود إلى معاداة السعودية للربيع العربي؛ ولذا أبدى عدم تفاؤله بحدوث أي حلحلة لها قبل اغتياله "لأن الذي لم يتغير حتى الآن هو سيادة سياسة اللامنطق" على حد تعبيره في مقال نشره بصحيفة "واشنطن بوست" بتاريخ (30 ديسمبر/كانون الأول 2017).

ووصف "خاشقجي" في مقاله دور قطر بالمنطقة بأنه أشبه بنافذة صغيرة تسمح للربيع العربي بأن يتنفس من خلالها، في مقابل اعتقاد سعودي بالقدرة على إغلاقها.

وعلى صعيد اليمن، تورطت السعودية في حرب لا تزال تستنزفها اقتصاديا، ولم تصل فيها إلى أي حسم عسكري، وهو ما سبق لـ"خاشقجي" التحذير منه في مقال نشره بـ"واشنطن بوست" في 6 ديسمبر/كانون الأول 2017.

جاء ذلك التحذير تعزيزا لمصداقية دفاع "خاشقجي" عن الثورات وخصما من رصيد الرياض، التي ارتكبت "خطأ استراتيجيا بوقوفها ضد الربيع العربي، وها هي اليوم تدفع ثمن ذلك"، حسب تعبيره. 

لذا اعتبرت صحيفة "لوموند" الفرنسية، في تقرير نشرته بتاريخ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2018، جريمة اغتيال "خاشقجي" هجوما جديدا للقوى المضادة للثورات العربية. لكن هذا الهجوم ارتد بأثر عسكي، وأحيا موجة جديدة أعادت الاعتبار للربيع الذي ظنت الرياض أنه انتهى.

أيقونة ملهمة

في هذا الإطار، كان التجمهر الذي وقع أمام القنصلية السعودية في إسطنبول بعيد مقتل "خاشقجي" وحضوره من قبل وجه الربيع العربي باليمن، الحائزة على جائزة نوبل للسلام "توكل كرمان"، التي وصفت الصحفي السعودي الراحل بأنه آخر ضحايا "الربيع العربي".

ومنذ هذه الوقفة تحولت صورة "خاشقجي" إلى أيقونة موجة ثانية للربيع العربي، حسب توصيف مراقبين، رصدوا تأثير بشاعة جريمة الاغتيال على حركة المطالبة بالحرية وحقوق الإنسان حول العالم، وصولا إلى حراك التغيير في كل من السودان والجزائر.

لكن أثر جريمة الاغتيال لم يقتصر على إحياء هذه الموجة فقط، بل امتد إلى ما توقعه "خاشقجي"، في مقابلة تليفزيونية مع قناة "دويتشه فيله" الألمانية، عندما علق على أثر استمرار الأزمة الخليجية على المزاج العام بالسعودية، قائلا: "الشخصنة الشديدة والقاسية في الأزمة التي نشهدها في التشاتم والتسابب، والذي الكثير منه للأسف يأتي من بلادي"، معتبرا أن "هذا أمر مؤلم"، وأن السعوديين لم يتعودوا "مطلقا على هذا المزاج".

فالسعوديون انقسموا إزاء الأزمة والاستقطاب الحاد إلى فريقين؛ الأول يوالي النظام ويروج لحملات تشويه خصومه، والثاني يعارض النظام من الخارج أو يحاول اقتناص مساحة استقلال من الداخل على الأقل، وهو ما واجهه النظام بحملة اعتقالات واسعة ابتداء من سبتمبر/أيلول 2017، ليأتي اغتيال "خاشقجي" في إطار من قمع المعارضين والمستقلين في المملكة، الأمر الذي أثر سلبا على نظرة قطاع معتبر من عموم المواطنين لحكومتهم.

هذا الأثر تحدث عنه "غالب دالاي"، الزميل غير المقيم بمركز بروكنجز الدوحة، بعد أيام من جريمة الاغتيال، قائلا إن مقتل "خاشقجي" سيؤدي إلى سيكولوجية جديدة ضد الحكم الديكتاتوري، مثل تلك التي حدثت مع الربيع العربي، لا سيما في السعودية ومصر والإمارات والبحرين.

وفي السياق، بدأت العديد من المنظمات المدنية بالعالم الغربي في تنظيم حملات تطالب بقطع الشراكات الاقتصادية مع السعودية، خاصة في مجال تصدير السلاح.

وطالت هذه المطالبات برلمانات دول منها بريطانيا وإسبانيا والولايات المتحدة، وأسفرت عن قرارات بحظر تصدير السلاح إلى الرياض على خلفية دورها في حرب اليمن، آخرها ما صدر عن البرلمانين الإيطالي والألماني في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول على التوالي، وهو ما لم تسلط عليه الأضواء بتلك الكثافة إلا بعد فضح بشاعة جريمة اغتيال "خاشقجي" ونشر جثته بمنشار عظم، كما أوردت وسائل الإعلام التركية.

السودان والجزائر

وامتد الأثر الخارجي للجريمة إلى موجة عارمة من الاستياء حول العالم، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ ما قلص قدرة السعودية في بلدان كالسودان والجزائر على صنع ثورة مضادة.

فمملكة ما بعد اغتيال "خاشقجي" غير قادرة على تكرار سيناريو ما بعد مذبحة رابعة العدوية في مصر؛ إذ ندد المجتمع الدولي بقتل المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم في مذبحة مشابهة، ورفض انفراد العسكر بالسلطة.

وإزاء ذلك، اضطر قائد قوات الدعم السريع، الفريق "محمد حمدان دقلو"، المعروف باسم "حميدتي"، إلى قبول صيغة تشاركية انتقالية مع المدنيين في تشكيل حكومة "عبدالله حمدوك" لاحقا، رغم التقارير التي أكدت تلقيه دعما سخيا من الرياض وأبوظبي ومحاولته تكرار نموذج الرئيس "عبدالفتاح السيسي" في مصر.

وفي الجزائر، بدا وعي الكثير من النخب واضحا بضرورة الابتعاد عن النفوذ السعودي في إدارة شؤون بلدهم، بعد جريمة "خاشقجي"، وهو ما ظهر جليا في تصريح لـ"عبدالرازق مقري" رئيس أكبر حزب إسلامي في البلاد (مجتمع السلم)، تحدث فيه عن خطر سياسات الرياض على بلاده، خاصة فيما يتعلق بقطاع النفط، وضرر دفع فاتورة تخفيص أسعار الخام على بلاده.

ولم يكن تخفيض أسعار الخام سوى تلبية لطلب من الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بعد اغتيال "خاشقجي"؛ حيث ربط بين دعم إدارته للرياض وبين "دفع" مقابل ذلك الدعم.

وتشير بيانات وكالة "بلومبرغ"، في هذا الصدد، إلى أن سعر برميل الخام الأمريكي كان عند مستوى الـ82 دولارا مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018، ليتراجع حتى حدود 65 دولارا فقط خلال هذا الشهر، حتى بعد الهجمات التي تعرضت لها شركة النفط السعودية العملاقة "أرامكو".

واليوم، يتمنى جيل من الشباب العربي أن يكون مقتل "خاشقجي" القشة التي قصمت ظهر البعير، وأن يتحقق على أثره كل ما كان يتمناه الصحفي الذي دافع عن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية في حياته، رغم أن صيحته إزاء السعودية لم تصل إلى سقف هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" الذي دوى في الساحات العربية عام 2011.