خاص الموقع

"الحزم" السعودي والاماراتي: جيوش بالايجار

في 2020/02/04

فؤاد السحيباني- راصد الخليج-

تحاول كل دولة، وحتى أي تجمع بشري، في أي إقليم جغرافي، وأي عصر إنساني، وطوال التاريخ البشري المعروف، لفرض سيطرتها على مناطق أبعد من حدودها الطبيعية، لتصدير رؤيتها واستجلاب الهيبة والنفوذ، قديمًا كانت القبائل والمجتمعات مدفوعة وراء احتلال أراضٍ تمتلئ بالموارد والذهب، وحديثًا فإن ترك الجوار في فراغ هو أخطر على وجود الدول من الانعزالية والاهتمام بشؤونها الخاصة.

ربما لا يعرف تاريخ جيرة جغرافية ما تعرفه العلاقات اليمنية السعودية، صدام فهدنة فيها دخان، ثم عداوات اصطبغت بالدماء والقتال، وأخيرًا حرب شعواء، تأكل الأخضر واليابس منذ سنوات خمس، ومؤهلة للاستمرار، بفعل رفض العائلة في السعودية، ومن ورائهم الولايات المتحدة الأميركية، ترك فراغ اليمن لغيرهم من قوى عالمية صاعدة، ولت وجهها صوب الشرق الأوسط، وترى في اليمن مفتاحًا وبوابة، وحليفًا كبيرًا مهمًا، في معركة الوجود بالبقعة الأهم والأقدم في العالم.

لكن التخطيط السعودي اصطدم بجبال راسية من الإيمان والوعي، لدى شعب أثبت فعلًا وقولًا أنه الفاعل الحقيقي في شبه الجزيرة العربية، وأطاح بأشكال الحكم الهشة التي تصورت إنها نجحت في صناعة دول في فراغ الصحراء، بالاعتماد على المال وحده، وعلى مخزونات هائلة من الثروة النفطية.

نجحت السعودية بعد صدام الحرب في ثلاثينيات القرن الماضي في ترجمة العلاقات مع اليمن للطريقة التي تناسبها، فأحجم الملك المؤسس عبدالعزيز عن الانجرار لنقل الحرب للداخل اليمني، وكان الإمام يدفعه إليها بذكاء، لكنه وقع معاهدة حدودية في الطائف، وترك لأبنائه الوصية الشهيرة، "عزكم في ذل اليمن، وعز اليمن في ذلكم"، لا أحد بالطبع سجل العبارة على لسانه، لكن الأحداث لا تنفك تؤكدها وتحسم صدق نسبها.

نقلت السعودية حرب اليمن إلى استقبال ملايين من العمال إليها، عقب ظهور النفط، وتوسعت بالضبط في فترة طفرة الأسعار، عقب حرب 1973 (العربية)، لتشد ملايين الأسر اليمنية إلى مدارها، وتخلق روابط صعبة التفكيك، والأهم: لم تجد الحكومات اليمنية حلا سوى قبول كل رغبة سعودية، وخلال حكم الراحل علي عبدالله صالح، بدا وكأن السعودية تأمر فيطيع اليمن.

كانت الإستراتيجية الهادئة حربًا، تستطيع المملكة حيازة إمكانياتها، وتجنب فقرها السكاني، وقلة مواردها البشرية، والاعتماد على أمراء أسرة آل سعود في مناصب الجيش القيادية، والذي يسبب على الدوام الضعف والتفكك بالوحدات العسكرية، وتجنبت المعركة المباشرة، واستعاضت بأموالها تفتن القلوب، وتُخضع رؤوس القبائل، وتأسر عقول المؤلفة جيوبهم.

لكن.. مع الصعود الصاروخي لولي العهد الحالي، وما حملته إليه نفسه الأمارة بالسوء من استغلال ثورة يمنية، كانت تتمة لثورات عربية أخرى، رفعت شعارات مناهضة للتبعية، ترفض الارتهان للخارج وللعدو، وما خلقته من فراغ في رأس اليمن وقيادته، قرر أن الوقت حان لابتلاع ما يستطيع من الأرض والبشر، ودون أن يرهق نفسه في قراءة سطر من تاريخ اليمن، دخل إلى حرب مفتوحة مع أسياد الصمود والصبر.

نسى الأمير –أو تناسى- أن اليمن هي الظهر الصلد لفراغ شبه الجزيرة العربية الرخو، وراح مزهوًا بشيطان المال يغري الكثير من الضباع لغنيمة باردة، سقطت بلا حراك، وأفقدتها سنوات حكم المخلوع "صالح" الطويلة، كل قدرة على الاستفاقة والمقاومة، وضم تحت راية الباطل عشرات الدول، واشترى بالمدفوعات المليارية من الأسلحة صمت المجتمع الغربي، ومباركة دوله، وتضليل إعلامييه.

جهزت السعودية عاصفة الحزم، واستوردت جيوش مصر والسودان، إضافة إلى قواتها وقوات الإمارات، والتي لا تعدو كونها شرطة الأسر الحاكمة المزودة بالسلاح الثقيل، واستفتحت الحرب بنداء تحرير اليمن من اليمنيين!.

من السودان، تحت حكم الطاغية الساقط، عمر البشير، استقدمت السعودية أرتالًا من المقاتلين الأطفال والصبية، وعدتهم بالمال، بعد أن تسببت في تجريف دولهم وتعجيزها وإفقارها، وذهب العميان إلى صراع الدم والنار، فكانوا أول الضحايا وأكثر الأسرى والسجناء، ولم تتردد طائرات الحلف الشيطاني في قتلهم حين استسلموا، لكي لا يتركون ورائهم دليل الخسة والسقوط.

شركات عمالة تستقدم الشباب، أو من هم دون سن الشباب، من السودان التي يفتك بها الفقر، بعد الحصار الدولي الطويل، والحروب الأهلية المريرة، للتشغيل بالإمارات والسعودية، ثم يجري تدريبهم على القتال وحمل السلاح، بقواعد عسكرية، وفي الأخير يُدفع بهم لتحقيق أحلام الغزو لبن زايد وبن سلمان، على أرض اليمن، التي تبتلعهم، ثم يأتي الدور على مرتزقة –أو قل مساكين- جدد، غاية ما حملهم إلى القتال، العجز والفاقة وشدة الحاجة وإغلاق كل سبيل للعمل والرزق الحلال في بلدهم.

شهادات الأسر السودانية الفقيرة عن أبنائهم، الذين لا يعلمون عنهم شيئاً تدمي القلوب، مثلما تدميها مأساة اليمن، الحرب الأقذر في الزمن العربي الأكثر سوادًا، تمول من خزائن السعودية والإمارات، والدم الطاهر يجري سيالًا على الأرض العربية، وملوك الرمال يستعيضون عن جيوشهم الورقية بألوف المرتزقة الفقراء، مشاهد تهزم أكثر روايات الأديب الروسي السوداوي كافكا في آلامها وبؤسها.

ومن مصر، التي فعل بها المال السعودي الأفاعيل، من شراء ذمم إلى الاستيلاء على أراضيها، اشترك الجيش العربي الأكثر عددًا في العمليات البحرية والجوية ضد اليمن، لتضع الأسرة السعودية أصبع ديناميت جاهز لتفجير العلاقات بين دولتين محوريتين في الإقليم، وأكثرهما تحكمًا في البحر الأحمر، وتترك بالدماء الغزيرة جرحًا لن يندمل بسهولة، بين فكي كماشة قادرين على عصرها.

السعودية تستثمر في مستقبل الفرقة والشقاق العربي، تزرع بذور الموت، لتحصد انتصارًا وهميًا، وما هي بحاصدته أبدًا، تستكمل دورها المرسوم في خدمة المصالح الأميركية، بإثارة نعرات الشعوب على بعضها، عوضًا عن توجيهها للعدو الحقيقي، وفي حرب من هذا النوع فإن كل رصاصة مقاومة تخصم من الوجود الأميركي ومن النفوذ الأميركي ومن الهيبة الأميركية، ويقاتل اليمني نيابة عن المصري والسوداني والفلسطيني، وفي انتصاره يكمن الحد الفاصل لاستكمال الأسرة المالكة بالسعودية –وفي غيرها- مسيرة التسلط على الشعوب والثروات العربية.

هناك فارق هائل، عظيم وعميق، بين المقاتل اليمني وغيره، بين من يصنع تاريخه، وينقش صموده متوهجًا على جبين الدهر، ويفرض انتصاره على أمم وجيوش وأجهزة استخبارات، لو اجتمعت على قوة عظمي لكسرتها، في شهور.